زول من الزمن الجميل ..!!
/
** بعثرت شنطة الشقيق، ووجدت شريط كاسيت أغبش اللون ومتآكل الأطراف..أغلقت الغرفة، ثم تدثرت بالبطانية بعد أن حضنت جهاز التسجيل و أدرته بصوت هامس، فالمساء – بأمر ست الحبايب – للنوم أو للمذاكرة وليس لإستماع الغناء .. لم يصدر الكاسيت الأغبش غناءً، أو كما ظننت ، بل أصدر ( كلام غريب)..من شاكلة : ( هوي يا وليد : حصل سادرت بالديداب وقدامك مراحك وراكب الخباب؟/ ودربك طولو يملأ العين، سحاب وغبار ومويتو سراب؟، وهوى كرباجك البكاي يبكي على ضهور الضمر الأنجاب؟، وتسري الليل وما تضوق هجدة لو كل النجم ما غاب؟)..يا ساتر، ما هذا الحكي الغريب؟، وهل لهذا النوع من الحكي يقودنا ناظر المدرسة بالجلد والوقوف في وضع الإنتباه عندما نعجز عن ترجمة مفردة نوبية إلى العربية؟..لم أفهم بيتاً في تلك الليلة، ومع ذلك أكملت الكاسيت الأغبش إستماعاً، فالعقل الباطني كان يستمتع بشئ ما مغلف بمفردات( الحكي الغريب )..!!
** لم يعد أخى إلى داخليته بالكاسيت الذي أحببته، بل تركه محذراً ( ما إجي إلقاك سجلت فيه حفلات الحلة ولا ونسة ناس البيت)، أوهكذا كنت أفعل بأشرطته، فيغضب وينصح..لم يعد بالكاسيت الأغبش، ولم تفارقني أشعار ود بادي إلى يومنا هذا..تجاوزت المتوسطة بحفظ النص، ولكن في ثانوية المرين كان أستاذي إبراهيم خلف الله، الله يطراه بالخير، مشرفاً على إصداراتنا الحائطية وليالينا الثقافية، وحريصاً على إستماع وتوثيق : ( رسالة بت الخير، هوي ياوليد، جزيرة عبد إله، جدي سعيد ولد بادي العكودابي، شيخنا ود الشايقي، سباحة في حي العمارات، و..و..)، وغيرها من روائع الكاسيت الأغبش، وكنت إستمتع بشرح أستاذ ابراهيم للنصوص العميقة وإستمتع برسمه في مخيلتنا لمشاهد القرى والوديان والقطعان والفرسان وكل القيم التي في النصوص، وكذلك إستمتع بتصفيق الزملاء ب (فصل علي) ..!!
** كبرنا، وتلوثنا بالبؤس المسمى بالهم العام، وصار الجميل ود بادي صديقاً، ولكن – للأسف – لم يعد في واقع حالنا غير خاطر يحمل ذاك السودان الجميل والموثق – نصاً ورسماً – في ( أشعار ود بادي)..يتصل من منفاه، إجباري بما يشبه الإختياري، ويبتدر قبل السلام : ( واا ماساتي ياود ساتي، ياما سوطنا فيها سواطي)، ونضحك ونحكي، ثم يبكي الحال من ذات النصوص : (حليل الدانقة والديوان/ حليل النافق اموالو، وتدى يمينو وما تعرف حسابو شمال خليك من يعرفوا فلان / ده كلو فضيلة فى الاجداد ابت ما تبقى فى الاحفاد، ومسكت فى النعوش الطاهرة واندفنت مع الجثمان/ وكل مكارم العابرين معاهم راقدة فى شبرين، وبقت امجادنا كانوا زمان و..كانوا زمان)، ثم يعد بالعودة إلى الخرطوم قريباً..ويأتي، ويكون قد صار الموعد القريب بعيداً، فالتزم بالرجاء : (عليك الله يا ود ساتي م اتخرب لي إجازتي بجرائدكم وتلفزيوناتكم وخرطومكم دي)، ليقضي بضعة أيام الإجازة ما بين غبش المدائن والأرياف ثم يتسرب من بينهم بهدوء ويعود إلى منفاه..هكذا ود بادي( إنساناً وشعراً)، كان ولايزال يمثل رمزاً للسودان الجميل الذي مضى ثم للسودان الجميل المرتجى..وعليه، شكراً لشركة زين التي أحسنت الإختيار وأتقنت الإحتفاء ب (زول من الزمن الجميل).. فما الذي أبكى ذاك الشيخ الستيني في المقاعد الخلفية لقاعة الصداقة ؟..حسناً، فلتكن ليلة التكريم وتلك الدموع ( أحرفاً أخرى)..!!
إليكم – السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]