رأي ومقالات

د. هاشم حسين بابكر: قدموا العقول يا «أولي الألباب»

عانى السودان وما زال يعاني، من تخبط السياسيين الذين اتخذوا من السياسة حرفة يقتاتون عليها، في ظاهرة فريدة من نوعها في العالم. وهذه الظاهرة اختصت بها الدول العربية دون غيرها من الدول، حتى أن آخر انتخابات جرت في بلد عربي كان المرشح الفائز فيها مُقعداً، إضافة إلى بلوغه الثمانين من العمر وفق ذلك مصاب بمرض التبول اللا إرادي..!!
وإذا كانت هناك مؤسسات للدولة العميقة هي التي تقوم بالترشيح وتختار الرئيس قبل انتخابه، فالانتخابات هناك مجرد تحصيل حاصل، رغم انها تبرز للعالم بأنها ديمقراطية بالدرجة التي لم يشهد لها العالم مثيلاً..!!
الأمر يختلف في السودان قليلاً، حيث يمارس السياسة محترفون لا يشكلون دولة عميقة، إنما طوائف وعوائل تسلطت باعتبارات تاريخية مبهمة، وبناءً على تجمد الأجواء..!!
المنتسبون إلى العائلات نازعهم منتسبون آخرون، ليس استناداً على طائفة أو بيت، إنما كان اعتمادهم وانتسابهم إلى البندقية التي لا تتحدث إلا عنما تريد إخراس من يتحدث..!!
ودخل في النزاع أيضاً الأحزاب العقائدية من شيوعية وبعث وكان انتساب هؤلاء بسبب الضجيج في الشارع السياسي وقد علا صوتهم رغم قلة عددهم وتأثيرهم على الشارع..!!
لكن أخطر انتساب سياسي هو ذلك الانتساب المصبوغ بالمسحة الدينية، وهذا الانتساب يعتمد على الاستعداد الذهني والروحي للمواطن السوداني للإسلام، الذي يتمتع بصفاته وسماحته، فالمواطن العادي حتى وإن كان عاصياً فإنه يتوقف عندما يذكر بأن فعله ينافي تعاليم الإسلام، ولا يعارض فيما قال الله من محكم التنزيل أو ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث شريف..!!
وأخطر الانتسابات أعلاه هو الانتساب للإسلام وقول المنتسبون إلى الإسلام بما لا يفعلون، حينها يعم الفساد البر والبحر، وتتغير الأخلاق سلباً على مجتمع كانت تسود فيه الفضيلة كإرث اجتماعي..!!
ومنذ الاستقلال وحتى اليوم يقدم لنا المنتسبون للبيوت والبندقية والإسلام والعلمانية أشخاصاً بعينهم حتى أن الكثيرين منهم بلغ من العمر عتياً..!!
والمطلوب ليس الأشخاص الفانين إنما المطلوب هو المنهج، والمطلوب بجانب المنهج العقول وليس الأشخاص، والمولى عز وجل خاطب العقول ورمز لها بأولي الألباب لا أولي الأنساب أو أولي البندقية أو أولي الأفكار العلمانية، وخطابه كان للمسلمين والمؤمنين وخص به أولي الألباب منهم..!!
لكن أولي الألباب أُبعدوا تماماً عن المشهد وسيطر عليه أولي الأنساب والبندقية وعطالى السياسة، وفوق هؤلاء جميعاً المنتسبون للإسلام قولاً وفعلاً..!!
لو قدم هؤلاء أهل العلم والمعرفة لإدارة المشاريع الاقتصادية والمصانع، لما احتاجوا إلى خصخصتها وبيعها حتى وصلنا إلى الهاوية اقتصادياً والأخطر من ذلك أخلاقياً..!!
اختفت العقول فانهار كل شيء، الزراعة والصناعة والنقل والتجارة، فانهار جراء ذلك الاقتصاد والأخلاق معاً، وهذا العام 2014 أصبح بحق وحقيقة عام الفضائح، من الأقطان والولاية، والجزيرة والصمغ العربي، هذا عدا الفضائح المستترة التي ينوء بها كاهل تقارير المراجع العام، فالحديث هذه الأيام عن المفاسد بعد أن اختفت نهائياً المحامد وقبرت..!!
في أواخر عشرينيات القرن الماضي ضرب اليابان زلزال مدمر، قضى على الغالبية العظمى من المصانع التي كانت تملكها الدولة، أعلنت الدولة حينها عن بيع المصانع لمن يريد الشراء من الاغنياء وكان السعر المطلوب للمصنع دولار واحد..!!
ولكن كان البيع بشروط محددة أولها أن يعمل المشتري على إعادة بناء المصنع في زمن حددته الدولة، كما أن العاملين بالمصنع يجب أن يبقوا به ولا يتضررون من جراء الخصخصة، جاءت اليابان بالعقول كي تعيد اقتصادها الذي ازدهر بعد ذلك الزلزال المدمر، وأصبحت قوة اقتصادية وعسكرية كانت أحد أطراف الحرب العالمية الثانية..!!
الدمار الذي حدث لليابان بعد هذه الحرب كان رهيباً وشاملاً، ولكن اليابان بالعقول التي استخدمتها أصبحت أكبر القوى الاقتصادية في العام بعد أقل من ربع قرن بعد الحرب العالمية الثانية..!!
ونحن منذ الاستقلال وحتى اليوم، نقدم الأنساب والأسر والبندقية والأشخاص ونتجاهل العقول «أولي الألباب» الذين خصهم المولى عز وجل بالخطاب..!!
قدمت اليابان العقول التي أعادت بناء اليابان، والتي كانت قد دمرت في خلال عشر سنوات أو تزيد قليلاً، أي ما بين العامين 1929 و1940 مرتين دماراً إن لم يكن كاملاً فهو شبه شامل، بناها أصحاب العقول من التكنوقراط، وأصبحت اليابان من أكبر اقتصاديات العالم، رغم أن مواردها الطبيعية أقرب إلى الصفر منها إلى الواحد الصحيح..!!
ونحن نقدم الجميع إلا أصحاب العقول، الذين وصفهم المولى عز وجل بأولي الألباب ونقدم بديلاً عنهم تارة أصحاب الأنساب وأصحاب البندقية وعطالى السياسة من كل حد وصوب..!!
أما حان الوقت لتقديم أصحاب العقول، بدلاً عن أولئك الذين تقدمونهم يا «أولي الألباب»…؟!!
د. هاشم حسين بابكر