رأي ومقالات

حمدي شفيق: شكاه جعفر نميرى الرئيس السودانى الأسبق الى الرئيس السادات،و كان هذا سبباً فى اعتقاله

منذ 30 سنة بالضبط زُرت العلّامة أسد المنابر الشيخ عبد الحميد كشك لأول مرّة. كُنت فى ذلك الوقت صحفياً ناشئاً ، أسعى للحصول على سبق صحفى ، باجراء حوار مع الداعية الخطير ، الذى ترتعد فرائص كُلّ الطُغاة رُعباً من خُطبه النارية .. و عندما دخلت شقته ، عرفت على الفور أنه عالم عامل عابد زاهد ، و ليس من المُتكالبين على حُطام الدنيا . فما كُنت أظن أن هذا العَلَم الذى طارت شُهرته فى سائر أنحاء العالم الاسلامى ، يسكن فى احدى شقق المساكن الشعبية البسيطة.
و لاحظت أن الحوائط لم يقم الشيخ بطلائها منذ سنوات .و أن الأثاث بسيط للغاية، فلم يكن له – رحمه الله – دخل سوى راتبه المُتواضع ، كامام و خطيب بوزارة الأوقاف.
و لو شاء لسكن القصور ، و حصد الملايين ..فقد عرضت عليه احدى الدول الخليجية
(شيكاً على بياض ) ليتولّى التدريس فى احدى جامعاتها ، و الخطابة فى أحد أكبر مساجدها ، بشرط واحد ، هو ألا يتطرّق الى السياسة ، و أن يكفّ عن انتقاداته اللاذعة للرؤساء و الملوك العرب..و لم يتردّد الأسد الهصور لحظة واحدة فى الرفض.
و رفض أيضاً دعوات متكرّرة بالحاح ، لأداء فريضة الحج ، فى ضيافة عدة حكومات..
و صبر الى أن جمع مبلغاً من مدخرات الأسرة ، و قام بأداء الفريضة مثل عامة الناس.
و أرسل اليه الحسن الثانى ملك المغرب السابق ،يعرض عليه القاء دروس فى شهر رمضان بأكبر مساجد المملكة، بالأجر الذى يُحدّده هو ..و رد عليه العالم العظيم :
( الأستاذ لا يسعى الى التلاميذ..فمن أراد العلم فليأت اليه فى مسجدى هنا )!!!
و قد تحوّلت جلستى مع الشيخ الى درس تاريخى بليغ لم و لن أنساه ما حييت،
و نفعنى الله به طوال عُمرى..وجدت نفسى سابحاً فى بحر علم الرجل و ثقافته
الواسعة الموسوعية .. و أغرقنى أيضاً بسيل من النكات و القفشات التى لم أسمعها من قبل ! فقد كان من ظرفاء زمانه ،و لا يملّ جليسه حديثه المُمتع مُطلقاً !!
و أذكر أننى جاريته فقلت قفشة أضحكته ،و لم ينس أن يُصحّح لى النطق ،فى ذات الوقت ،لأنه كان من أساطين اللغة العربية ،فضلاً عن الفقه و التفسير و السيرة و الحديث و التاريخ و السياسة ، وغيرها من العلوم الشرعية و الاجتماعية المتنوّعة.
و كان حاد الذكاء ، حاضر البديهة ،لاذع السُخرية.. و الويل لمن كان يقع فريسة له
من الحُكّام !!و قد شكاه جعفر نميرى الرئيس السودانى الأسبق الى الرئيس السادات،و كان هذا سبباً فى اعتقاله بعدها ، فضلاً عن هجماته الصاروخية على السادات شخصياً ، و من قبله عبد الناصر ،و كل القادة العرب و العجم فى عصره بلا استثناء.
و قد تعرّض للاعتقال قبلها عدة مرّات فى الستينيات،بتُهم صارخة التلفيق ،لأنه كان كفيف البصر ، و بالتالى يستحيل اتهامه بارتكاب أعمال عنف ، أو ارهاب أو كباب !!!!
و فى أوّل مرّة اعتقلوه فيها أخرجوه من السجن ،ليتسلّم جائزة المركز الأول فى امتحان الثانوية العامة الأزهرية على مستوى الجمهورية ،من عبد الناصر فى عيد العلم .و أعمى الله قلب الطاغية ، و طمس على بصيرته ، فلم يأمر باخلاء سبيل الطالب الكفيف العبقرى المحبوس ظُلماً ،و أعادوه الى الزنزانة بعد تسلم الجائزة !!!!
و فى عهد المخلوع مبارك أخرجوه مع باقى المُعتقلين من سجن طُرة ، لكنه بقى مُحدّد الاقامة ، ممنوعاً من الخطابة ،الى أن لقى الله ..و كانت منحة فى ثوب محنة..اذ تفرّغ الشيخ لانجاز تفسير كامل للقرآن الكريم ، فضلاً عن العديد من المؤلفات القيّمة و سيرته الذاتية الحافلة .. و قال لى رحمه الله : لا يهمنى أنهم منعونى من الخطابة ،فمُعظم ما أُريد قوله محفوظ فى مئات الأشرطة و التسجيلات ، و هى مُتداولة بأيدى الناس ، موجودة لمن يريد .. و لم تكن هناك فضائيات و لا انترنت فى عصره ..
و شاء الله تعالى أن ينتشر علم العبد الصالح ، رغم حصار الطواغيت ، فقام أهل الخير من طلبة العلم – بورك فيهم – ببث خطب و دروس الشيخ عبر الانترنت ،
فى مئات المواقع بعد وفاته ، و هى حصيلة علمية و ثقافية اسلامية هائلة ،
تُغنى الطالب عن سنوات كاملات يقضيها فى الجامعات ..و هناك كرامة لهذا الرجل
كنت شاهداً عليها ..فقد خشيت ادارة المجلة التى أعمل بها عاقبة نشر
حديثه معى ، و رفضوا أيضاً نشر مُذكراته على حلقات ، كما فعلوا مع دعاة آخرين ..
و شعرت بحزن عميق ، و استحييت من الشيخ ، رغم أّنّه بفطنته قد فهم الموقف
بدون تفسير منّى،و كان يعلم أنّنى مجرد مُحرّر صغير تحت التمرين لا أملك شيئاً.
لكننى ظفرت منه رحمه الله بدعوات صالحات ، ما أحب أن لى بها الدنيا و ما عليها..
و بعد حوالى 12 سنة فقط شاء قدر الله أن أتولّى رئاسة تحرير جريدة (النور) الاسلامية التى يُصدرها حزب الأحرار ..و تحقّقت رغبتى ، فنشرت حديثاً أجراه أحد الزملاء مع الشيخ كشك على صفحة كاملة،مع (المانشيت)العنوان الرئيسى للجريدة.
كما نشرت مُذكّراته بالجريدة على حلقات ،بالضبط كما تمنيت قبلها ب 12 سنة !!
و كذلك مات هذا العالم العامل ساجداً،و تلك كرامة ظاهرة ، و لا نُزكّى على الله أحداً.
رحم الله شيخنا الجليل كشك..فما أظُنّ أن المنابر قد اعتلاها فى عصره مثله !!!!
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء
فاظفر بعلم تعش حياً به أبدا *** الناس موتى و أهل العلم أحياء
حمدي شفيق

‫5 تعليقات

  1. رحمه الله رحمة واسعة وادخله فسيح جناته مع الصديقين والشهداء بقدر ما قدم وترك ارث مقدرا وكبيرا يستفيد منه الناس وبأذن الله يبقي صدقة له ،،رحمه الله

  2. رحم الله الشيخ الجليل كان شجاعا…في مذكراته كثير من الايمانيات و العظات و العبر و دروس مجانية لشيوخ هذا الزمان …نوصيكم بقراءتها ان لم تقرؤها من قبل .

  3. ايها الكاتب جزيت خيرا كم احببنا هذا الرجل وكم كم سمعنا له ومازلنافكشك مدرسة متفردة في الخطابة ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم الا رحم الله ذاك البحر الخضم والاسد الهصور

  4. رحمه الله
    أثرت شجوني لدرجة العبرات
    رحمه الله …ماكان أشجعه ! جهر بالحق في وجه الظالم
    رغم أنه كفيف فقد أحرز درجة 100 كاملة عندما دخل الجامعة
    حكى أنه دخل على لجنة الامتحان الشفوي ، فسمع أحد أعضاء اللجنة يقول : داخل عليكم أعمى
    فرد في لحظته ” إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”
    فأدرك الرجل أنه أمام شخص غير عادي

    كنا نتجادل أنا وصديقي ” علاء” الذي استقطبه الشيوعيون …كان يقول لي كيف تفهم مع صياح هذا الرجل ؟
    فكنت أقول له أفهمه لأنه صوت حق
    ألا رحمك الله أيها الشيخ الجليل وأسكنك الفردوس مع الحبيب المصطفى الذي كنت تصلي عليه في كل لحظة