رأي ومقالات

محمد الهادي الطيب : الإمدادات الطبية… الخصخصة في ثياب شركة حكومية !!

كم هي مربكة ومرتبكة تصريحات السيد مدير عام الإمدادات الطبية، دوماً ودواماً، ولعل تصريحاته الأخيرة المنشورة بصحيفة «السوداني» تعكس هذا الإرباك والارتباك بوضوح وجلاء شديدين، ففي حديثه لأعضاء المجلس الوطني، لدى زيارتهم للإمدادات الطبية، طالب المدير العام بإصدار قانون يتم بموجبه تحويل الهيئة العامة للإمدادات الطبية إلى شركة حكومية.. هذه المطالبة تشدنا بقوة إلى الوراء إلى مربع كنا نظن أننا غادرناه قبل ثلاث سنوات مضين، ويومذاك كان سيادته يقدم مشروعاً لخصخصة الإمدادات الطبية، ولما كانت أطروحة الخصخصة تلك ينتاشها بؤس شديد وفقر مدقع في تناولها للأمر، منهجاً و محتوى، لم يكن من العسير هزيمتها ووأدها في مهدها عبر ستة مقالات فندنا فيها كل جوانب الأطروحة، حتى قبل أن يبلغ نقدنا إياها مداه وتصل مقالاتنا إلى منتهاها، حيث حسم النائب الأول يومذاك الأمر بوضوح بعد أن استبان خطأ وخطر وخطل تلك الأطروحة وبؤسها وبذلك تم إجهاض تلك «المغامرة» المكتملة الأركان!!
يومها كان جميع القطاع الصيدلي ضد مبدأ الخصخصة عدا عرابها:
– فالقطاع الخاص «اتحادالمستوردين» أدرك باكراً خطورة الأمر، فوقف موقفاً مهنياً نبيلاً وأعلن على لسان رئيسه د. صلاح كمبال أنهم لن يشتروا سهماً واحداً من الإمدادات الطبية.
ــ والصيادلة بمختلف توجهاتهم ومواقعهم اصطفوا في جبهة رفض كامل ضد تلك المغامرة، وحتى لجنة الخصخصة نفسها لم تكن على قناعة بالأمر… من المؤسف حقاً أن يقف عالم ماليزي ضد تلك الخصخصة ويأتي إلى السودان محاضراً وموضحاً مخاطرها بينما يحاول بعض بني الوطن أن يأتوا أهم دعامات أمننا الدوئي في مقتل!!!
يومها لم يكن أمام السيد المدير العام إلا أن يتراجع دفعة واحدة، حد الفرار من أطروحته والتنكر لها واتخاذ مواقف نقيضة منها تماماً!!
ما يقودنا لحديث الماضي أمران اثنان: أولهما: أن السيد المدير ينقل الآن مخططه السابق من ملعب لجان الخصخصة بعد فشله ــ إلى ملعب البرلمان، فأردنا التذكير بما جرى سابقاً لأن ما يجري الآن هو امتداد لذات سيناريو الخصخصة بمسمى جديد.
ثانيهما: أردنا للسادة أعضاء البرلمان ــ قبل اتخاذ أية خطوة في هذا الاتجاه ــ أن يعلموا بوجود آراء مخالفة ترى أن ما يتم لا يخدم أية مصلحة عامة، وإن كانت الإمدادات تعاني حالياً ثمة مشكلات هنا أو هناك فإن ممكنات الحل يجب البحث عنها في داخل الأطر القائمة الآن لأنها أطر مستقرة وراسخة لهيئة ناجحة صمدت في وجه كل التحديات في ظل أقسى ظروف اقتصادية… ووجهات النظرالمخالفة هذه من حقها أن يستمع لها وأن تُناقش في هواء طلق حتى لا ننجر إلى فخ العبارات الملغمة، فمشروع خصخصة الإمدادات الطبية يجري إحياؤه الآن وتقديمه في ثوب ومسوح جديدين بمسمى «تحويل الهيئة إلى شركة حكومية».. وسيادته لا يوضح لنا طبيعة هذه الشركة الحكومية: أهي شركة حكومية «خاصة» بشركاء محدودي العدد «سبعة فما دون» وأسهم غير قابلة للتداول، أم هي شركة حكومية «عامة» بعدد كبير من المساهمين وأسهم قابلة للتداول، بيعاً وشراءً؟ والإجابة عن هذا السؤال لها أهمية خاصة، لأنها ستكشف أهداف هذا التحول من صيغة الهيئة إلى صيغة الشركة ومدى انعكاسات ذلك على الأمن الدوائي للبلاد.. وفي كلتا الحالتين يظل جوهر الخصخصة قائماً، لأن جوهرها هو تحويل ملكية الهيئة ، كلياً أو جزئياً، إلى جهات أخرى… وفي كل الأحوال أيضاً يفتقد الأمر إلى ضرورات ملحة أو مبررات عملية وموضوعية تحتم مثل هذا الإجراء الجزافي بكل تداعياته، الإ أن يكون للأمر جوانب غير معلنة ولا مرئية، ومع دلك سنضطر هنا إلى مناقشة عارضة ومجملة لكل الظروف والفرضيات الممكنة والمحركة لاقتراح كهذا على أن نعود لها بالتفصيل لاحقاً:

1 / إن كان الأمر متعلقاً باستقلال مالي وإداري للهيئة فإن تحول الإمدادات الطبية من إدارة تابعة لوزارة الصحة إلى هيئة مستقلة، في بداية تسعينيات القرن الماضي، قد حقق لها ذلك الإستقلال الذي انطلقت به الإمدادات إنطلاقتها الكبرى لتصبح واحدة من أنجح مؤسسات الدولة في أدائها المهني والمالي والإداري خلال الثلاثة عقود الماضية، وهذا ما سنناقشه مرة أخرى في مقال آخر.

2 / كما أننا لا نظن أن الأمر متعلق بتعثرات مادية حادة أقعدت الهيئة في بعض جوانب عملها، بل أن حديث السيد المدير العام يدحض وجود مثل هذه التعثرات حيث صرح سيادته بأن مخزون الهيئة يغطي 95% من احتياجات البلاد، فضلاً عن أنه كشف عن وجود سيولة مالية أخرى لا تجد طريقها للتحويل الخارجي لشراء مزيد من الأدوية، لأسباب لا علاقة للإمدادات بها، إضافة إلى كشفه عن وجود مديونية كبيرة لصالح الإمدادات الطبية لدى وزارة المالية تبلغ جملتها 51 مليون جنيه منذ العام 2009، أي ما يعادل أكثر من 10 ملايين دولار، آخذين في الاعتبار سعر صرف الجنيه في ذلك الوقت… إذن فإن مقترح تحويل الهيئة إلى شركة غير مبرر من ناحية مالية.

3/ وهناك إفتراض ثالث هو أن هذا التحويل سوف يؤدي إلى تطوير نوعي وكمي في أداء الإمدادات الطبية لتؤدي مهمتها على نحو أفضل، لكن حديث سيادته نفسه، عن توفير الإمدادات الطبية لـ 95% من احتياجات البلاد سوف يجتث هذا الافتراض من جذوره، لأن هذه النسبة إن صحت فهي عنوان لأداء ممتاز.

4/ هناك افتراض أخير أن هناك جهة أو جهات تسعى للاستحواذ على هذه الهيئة الناجحة ويعمل المدير العام لاسترضائها، وسيكون مثل هذا الإسترضاء مفهوماً على خلفية تصريح السيد الرئيس بأن التغييرات التي حدثت في أعلى مناصب الدولة سوف يتبعها تغييرات أخرى تغوص عميقاً حتى تصل مناصب مديري العموم، مما جعل الكثيرين يتحسسون مقاعدهم ما أصبحوا أو أمسوا، وربما يفسر لنا هذا الافتراض هذه الحركة الدؤوبة التي تنتظم مفاصل الدولة الآن دون هدف، في غالب الحين.
على كل حال، سيكون نقدنا، أن أمد الله في الأيام، قائماً على منهج وحيد هو دحض وجود أي مسوغات موضوعية أوعملية لأية قفزة في الظلام، في وقت فقدنا فيه كل مناعتنا الاقتصادية، كما أن الظروف السياسية هي الأخرى تعاني احتقاناً لا يخفى،
وكلا الأمرين لا يتيحان لنا التمتع بـ «رفاهية» التجربة والخطأ في مؤسسات ناجحة مهنياً ووظيفياً، ومستقرة إدارياً ومالياً، بل أصبحت الأنموذج الأمثل الذي توصي منظمة الصحة العالمية باحتذائه لبناء نظم الإمداد الطبي إفريقياً… للأسف الآخرون يحترمون تجربتنا الناجحة ونحن نهدمها بمعاول غليظة، دون تدبر ولا كتاب منير!! ونواصل قريباً.

صحيفة الإنتباهة
ع.ش