أ.د. معز عمر بخيت

كيف هي (دنيتنا الجميلة) بعدك يا “محمود”؟!

كيف هي (دنيتنا الجميلة) بعدك يا “محمود”؟!
أن يرحل شخص ما فهو فقد لمن حوله من أهل وأصدقاء وأحباب، وأن يرحل مبدع فهو فقد لجمهور عريض من محبي العطاء والحس الفني الأخاذ، لكن أن يرحل إنسان بقيمة “محمود عبد العزيز” فهو فقد للبشرية جمعاء. فها هي (دنيتنا الجميلة) تفقد بحراً تمدد في دواخل الإنسان معنى وشكلاً وهوية مما يجعل القلم يطأطئ رأسه قاصراً عن فضاءات التعبير عن حزن عميق وشجن يحول كل لحظات الحياة إلى دوائر متحركة، تؤكد أن من يبعدون عنا هم أكثر الناس قرباً. فلكم هو رائع هذا الوطن العظيم، فهو يمنحنا دائماً وفي أقصى لحظات الضيق زهوراً وأشياء للتذكار.
لعلي وأنا تعجزني الكلمات ويغلبني الأسى لا أجد ما أخطه سوى تلك الرسالة التي بعثتها قبل عام ونيف إلى “محمود عبد العزيز” وناديته فيها بمطرب أفريقيا والقارات المجاورة الأول، وأن أضعها بين يدي القارئ الكريم مرة أخرى. تقول الرسالة:
أدرك تماماً أن الألقاب في بلادي ورسائل الدكتوراه والأستاذية تمنح عشوائياً وكيفما اتفق لحيثما اتفق إلا في بعض الحالات الأكاديمية النادرة لبعض الكفاءات العملاقة في بلادي. أما الصفات الأخرى فتطلق على عواهنها، وتصبح ملازمة للممنوح له اللقب ويضعها على بطاقة التعارف الخاصة به زهواً وافتخاراً. وعندما شاهدت لقب الأستاذية يمنح لكل من هبّ ودبّ من مؤديات أغنيات البنات على سبيل المثال، والدكتوراه تمنح لهذا وذاك ولرؤساء تولوا مقاليد الحكم اغتصاباً، قررت أن أمنح نفسي لقب إمبراطور في ساحة الحب والفرح والجمال قبل أن يستحوذ عليه أحد المطربين أو الانقلابيين، وأن تتم دعوتي عند استيلائي على السلطة بالإمبراطور الأستاذ الشاعر الدكتور القائد الملهم صاحب الفخامة والسمو والسعادة والعظمة وجلالة الإمبراطور المفدى (المبسوط منو الشريف)، والأخيرة هي قمة المعالي المنشودة. كما سأرتدي زياً عسكرياً مصنوعاً من الأنواط والنياشين التي سأمنحها لنفسي احتفاءً بها ونرجسية لوجه الله لا للسلطة ولا للجاه وإذلالاً لخلقه كما يفعل الرؤساء والملوك!!
وسط هذا الافتراء على الألقاب الفنية يبقى هناك لقب حقيقي يجب أن يُمنح لمطرب سوداني موهوب ومبدع وساحر، وهو الفنان العملاق “محمود عبد العزيز”، الذي دون شك هو مؤهل لأن يكون مطرب أفريقيا والقارات المجاورة الأول، وهو بحق يستحق ذلك ويتخطاه إلى ما أكبر وأعظم لولا ظروف الوطن القاهرة وظلم ذوي القربى وأصدقاء السوء.
في مقال سابق تحدثت عن مستنسخ بشري لمطربنا الرائع “محمود عبد العزيز” ووضحت أن الاستنساخ هو إنتاج نسخة مشابهة للأصل أو مطابقة لمعظم مواصفاته، وهو بالتأكيد يحاكي الأصل ولكن لا يحمل قيمته الحقيقية. ولقد عرف العالم منذ القدم الاستنساخ في جميع أشكاله فيما يتعلق بالفنون وغيرها. فعلى سبيل المثال يتم استنساخ الأعمال الفنية للمبدعين كاللوحات والتماثيل والكتب، وأيضاً قطع الغيار، وحتى الانفعالات وأشكال الهوس المختلف. كل هذه المستنسخات نحن في السودان نجيد صنعها ونتفوق فيها على جميع أنواع التكنولوجيا العصرية، فإذا تمخضت لديك فكرة عبقرية وقررت فتح (دكان) في زاوية منزلك العامر أو شراء (ركشة) أو (دفار) أو (خلوة) تستجلب فيها الخدام لفك العمل والعارض، أو فتح محل اتصالات أو (بلياردو) سيتم لا شك استنساخ عجيب لهذه الممارسات الأعجب وستجد كل من حولك (قدّر ظروفك).
وفي زيارة سابقة لي إلى الولايات المتحدة الأمريكية لحضور مؤتمر طبي، ذهبت على هامش المؤتمر إلى محل تجاري لأحد الإخوة ويقوم ببيع منتجات سودانية أصلية ومستنسخة، وحينها قررت شراء شريط كاسيت لمطربنا العملاق “محمد ميرغني” وآخر لـ”محمود عبد العزيز” لإهدائهما إلى طبيبة أمريكية كانت قد زارتني بالسويد والتقت بالأستاذ “محمد ميرغني” أثناء قضائه لإجازته معي بالسويد، واستمعت تلك الدكتورة لأغنياته وأعجبت بها أيما إعجاب، واستمعت أيضاً لشريط كاسيت لـ”محمود عبد العزيز” وذكرت لي بالحرف (أن هؤلاء المبدعين لو كانوا في نيوأورلينز لفاقوا “مايكل جاكسون” شهرة). بعد أن تحصلت في ذلك المحل الكائن بڤرجينيا على شريط (حلو العيون) لـ”محمد ميرغني” لم أجد للأسف شريطاً لـ”محمود عبد العزيز”، وعندما رأت البائعة الحزن النبيل على عينيّ قالت لا تحزن فلدي البديل. تملكتني الدهشة في البدء، إذ إنني كنت أعتقد أن البديل يكمن فقط في الدواء والإسبيرات، لكنني استدركت بأن البديل ربما يكون نسخة سوداء لشريط “محمود” الأصل، إلى أن فوجئت بالبائعة تزيل الغلاف الشفاف عن شريط أصلي وتدخله في الجهاز لأستمع لـ”محمود عبدالعزيز”. فقلت لها في تعجب بالغ: ما معنى هذا؟ قالت لي هذه نسخة أصلية لجنين بشري تم استنساخه من “محمود” ومثل هذه العمليات تجرى للعديد من الفنانين، فمستنسخ “فرفور” مثلاً الآن في الأسواق، ومستسنسخ “زكي جمعة” لا يزال في المختبر الفني (مين زكي جمعة ده؟)، وحيث إنني وعدت الدكتورة العزيزة بشريط “محمود: قمت بنزع صورة الغلاف وقدمته لها. أعجبت الدكتورة الأمريكية بمستنسخ “محمود” على أنه “محمود” ولكن عندما اقتضت الأمانة العلمية إخبارها بالحقيقة- فلقد كنت أخشى أن يصاب مستنسخ “محمود” بالشيخوخة المبكرة كما حدث للنعجة دوللي فتظن الدكتورة فينا الظنون- اعتذرت لي بأدب عن قبول النسخة المستنسخة لـ”محمود” لأنها مسألة مبادئ بالنسبة لها وطالبت بالأصل الذي وعدتها أن يأتيها قريباً بالبريد.
وأنا أستعيد كل هذه الذكريات شاهدت مطربنا العظيم “محمود عبد العزيز” صاحب أكبر شعبية تحصل عليها مطرب سوداني على مر العصور، وصاحب الأداء الجميل المتفرد من نفس الولاية الأمريكية التي رويت القصة أعلاه منها مع فرق عظيم. كان ذلك عبر برنامج (أغاني وأغاني) التي كان “محمود” رغم ما بدا عليه من إرهاق وتعب وجسد نحيل مرهق، بطلها وسيدها دون منازع. وأنا على يقين أن القائمين على أمر البرنامج أرغموه بطريقة ما على الحضور والمشاركة لكسر الرتابة عن البرنامج ومنحه وهجاً جديداً، لكن كل ذلك كان على حساب الأسطورة “محمود عبد العزيز”. أحس بأن هذا الشاب يحاربه أدعياء الفن ويضعون الشوك في طريقه، وتحاربه السلطة وتعرضه لمهانات عديدة لا يستحقها. “محمود” يجب أن يلقى الرعاية من الدولة ومن أهل الفن بمختلف توجهاتهم ومن كل الأمة، وأنا من هذا المكان أوجه له دعوة صادقة ومن القلب أن يحضر للبحرين بعيداً عن الفن والأصدقاء والمعجبين في زيارة خاصة أعده فيها بأن يعود بعدها إلى وطنه كما كان رائعاً ونقياً وجميلاً ومعافى من كل سيئات الآخرين، ليصبح بحق وحقيقة فناناً عالمياً بلغة سودانية جديدة ومتفردة.
وأنا أكتب هذا المقال وردتني رسالة من الشاعرة الجميلة “سلمى علي محمد الحسن” المقيمة في دنفر- كلورادو بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي تعتبر أن “محمود” لم يخلق له مثيل في ساحتنا الغنائية، وتحدثت في رسالتها عن كل ما رويته أعلاه وختمت الرسالة بقصيدة رائعة مهداة لـ”محمود” أفرد لها هذه الساحة عبر (مدخل للخروج) تعبيراً عن مدى الحب الصادق لهذا الشاب الفريد والموهوب بحق وحقيقة، وأبسط دليل على ذلك هؤلاء الملايين من المعجبين الذين لم ينل عشرهم أي مطرب سوداني منذ فجر التاريخ.
ألا رحم الله “محمود” رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنّاته وباعد بينه وبين خطاياه كما باعد بين المشرق والمغرب. اللهم أغسله بالثلج والماء والبرد.. اللهم أبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله.. اللهم أجمعنا وإيّاه في مستقرّ رحمتك.. اللهم إنّا نسألك باسمك الأعظم أن توسّع مدخله.. اللهم آنس في القبر وحشته وثبّته عند السّؤال ولقّنه حجّته وباعد القبر عن جنباته واكفه فتنة القبر وضمته، واجعل قبره روضةً من رياض الجّنّة ولا تجعله حفرة من حفر النار.. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيّئاته.. اللهم ألحقه بالشُهداء وافتح عليه نافذة من الجنّة واجعل قبره روضةً من رياضها.. (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

{ مدخل للخروج:
(شعر: سلمى علي محمد الحسن)

بتأملك
وأتحدى بيك كل البيقول
كان وانتهى وأرجع وأقول
مين بشبهك
وأتحدى بيك كلّ القديم
والجاي جديد والقال نساك
والقال سلاك والودّعك
واتأملك
وألقاك عصفوراً حنين
في رقة ساكن عشتك
ألقاك زي كروان بتصدح
بالجمال في كلمتك
وألقاك شامخ زي جبل
كل الصعاب ما هزّتك
وألقاك زي طفلاً صغير
همّك غناك وفكرتك
صابك رشاش
من ناس قراب
شوّش عليك وأربكك
خلاك شارد في حزن
همّاً تقيييل العذّبك
وطريق صعاب
وفراق قراب
هدّاك لمن أنهكك
بس إنت أقوى من الأسى
وربك كريم ما بهمّلك
والقالو فيك وقالو ليك
ما بضرك أبداً بينفعك
والناس قلوبا معاك وليك
وإن كان عترت بنسندك
بنكون معاك ونقيق وراك
كل القلوب الحبّتك
راجياك ترجع زي زمان
وإن شاء الله يوم ما نفقدك
بنغني ليك وندعو ليك
ومستحيل كان نخذلك
قول لينا صافينا الوداد
ورينا إيه الغيّرك؟
إن كان فقدت عزيز عليك
مكتوب مسطّر يسبقك
حزنك عليو ما هو البيفيد
بيكفيهو صافي مودتك
أهديهو إحساسك إليو
أهديهو صادق دعوتك
وإن كان جفاك زولاً عزيز
أنسى وأبد ما يأثّرك
خليهو “في ستين” يروح
خسران وما بيستاهلك
وإن كان ألم أو كان ندم
ما بسوى يسرق بسمتك
ما تحمل الأسى في القلب
واهتمّ لينا بصحتك
ما تشيل هموم
ما تجافي نوم
عيش الفرح في دنيتك
عايشين أمل يوم بكرة بيك
والجاي أحلى ومافي شك
آلاف معاك بتخاف عليك
وقلوب كتيرة بتعشقك
خايفين وقلقانين عليك
متلهفين لي فرحتك
ماشين وراك
شايلين غناك
ومغرمين بمحبتك
أسعدت مليون بي غناك
يا ريتنا نقدر نسعدك

معز البحرين
عكس الريح
[email]moizbakhiet@yahoo.com[/email][/SIZE]