منى سلمان

الشباب الما دخل الكرباب

الشباب الما دخل الكرباب
ذات مرضة، كنت أجلس بـ صالة الانتظار في احد المستوصفات بالقرب من المعمل، انتظارا لنتيجة التحاليل الطبية التي طلبها مني الاخصائي .. وبينما كان (سيد الاسم) يساسق ما بين شباك المحاسب المزدحم وفني المعمل لاكمال الاجراءات المطلوبة لسداد الفاتورة، كنت أجلس في سكون بجوار سيدة كبيرة في السن، أمارس هوايتي في متابعة أحوال الناس، ومحاولة استنتاج العلاقات التي تربط بينهم ومن أين اتوا
والى اين يذهبون، عندما لفتني شاب صغير ربما كان بين الثامنة عشر والعشرين من عمره .. في الحقيقة ما لفتني للشاب واسترعى انتباهي كانت ملابسه، فقد كان يلبس (كاجوال) أو كما يطلق المهتمون بالموضات والازياءعلى طريقة اللبس بصورة غير رسمية، وذلك لأن الشاب كان يرتدي شورت يصل للركبة (برمودا) وتي شيرت قطني خفيف قصير الاكمام مع شبشب بلاستيكي ملون، وتلك ملابس في عرفنا نحن التقليديون – اسم الدلع لـ الدقة القديمة تعتبر ملابس بيتية لا يصح الخروج بها إلا للدكان لتناول كيس العيش وذلك مع الكراهة، ومن باب ضرورات المراسيل التي تبيح الخروج من البيت على غير سنجة عشرة ..
المهم، ملابس الصبي الشاب وطريقة تبريمه لشعره على طريقة (الاندومي)، وسلسلة فضية تتدلى من عنقه مع لمعة الوجه التي تشي بأن بشرته تحصل على عناية خاصة في صالونات تجميل الرجال (الطلعت لينا جديد)، جعلتني اصنفه من فوري تحت فئة (أولاد الزمن دا)، وهو تصنيف يحمل في طياته كثيرا من المآخذ والعلل ضمن النظرة السالبة التي يحملها كل جيل للاجيال التي تليه .. والمليئة بتهم اقلها قلة الشعور بالمسئولية والتهرب من حملها .. الاستهتار .. اقتراف الفعائل المشينة دون رادع أو وازع .. السطحية والاستلاب الحضاري .. عيش اللحظة وعدم السعي لتأمين المستقبل بسلاح العلم والمعرفة .. والاخطر الميوعة والتشبه بالنساء الذي شاب كثيرا من طريقة لبس وتصرفات (اولاد الزمن دا) بالتحديد .. طبعا دا لو اتغاضينا عن الشارلستون والخنافس ولبس السلاسل الذي ميز جيل السبعينات .. طبعا بديهي اننا شفناهم في الصور والافلام القديمة .. ما حضرنا زمنهم !!
ما علينا، نرجع لمرجوعنا الاولاني وهو نظرتي الاولى وتقيمي للشاب من مظهره، والتي تغيرت سبحان الله مية وتمانين درجة بعد دقائق قليلة ! وذلك لأن الشاب كان يسعى بهمة بين اقسام المستوصف وهو يحمل اوراق وملف طبي، ثم عاد للسيدة كبيرة السن التي تجلس بجواري وانحنى عليها بكل حنان واهتمام يحدثها ربما بما توصل اليه مع الاختصاصين، ثم ساعدها على النهوض برفق وساعدها على السير وكأنه يحملها حملا ودخلوا على الطبيب ..
تصادفت معهم أكثر من مرة اثناء انتظاري وحركتي بين المعمل وغرفة الطبيب فقد كان الفتى في غاية البر والرحمة مع السيدة والتي يبدو انها جدته .. كان يسعى معها كحالنا – بين المعمل وصالة الانتظار ومقابلة الطبيب .. يجتهد في ان يشعرها بالراحة ويخفف عنها الالام ويحيطها برعاية تشي بدرجة عالية من تحمل المسئولية والمقدرة على القيام بها ..
حقيقة يومها تذكرت مقولة اهلنا (الما بعرفك يجهلك)، وشعرت بالخجل للحظة من تقيمي للفتى من شكله الخارجي بعد ان ظهر لي اصالة معدنه !!
في مرة ثانية وصلني خطاب من طبيب يقيم ويعمل بالخليج، تعليقا على ما كتبته ذات مرة عن حال بعض ابناء الفقراء في المدارس الحكومية الذين يقضون يومهم بدون طعام وبطونهم طاوية خاوية لعدم استطاعة اهلهم توفير حق الفطور، والذين سمعت عنهم من صديقة لي تعمل معلمة باحدى مدارس الاساس الحكومية .. وحكت لي عن الأم التي كانت تحضر لابناءها سندوتشات الفول بعد الفسحة الصغيرة، وعندما لامتها المعلمة على تأخرها وتركها للاطفال جوعى اعتذرت المرأة بأنها تعمل في البيوت باليومية وتنتظر حتى تنتهي من عملها وتأخذ الاجر لتشتري لابناءها الفطور ..
وصلني خطاب من الطبيب يبدي فيه رغبته في مد يد المساعدة لاطفال هذه المدرسة ويطلب مني توصيله بهم، ولكني ترددت في البدء لعلمي بأن الرغبة في المساعدة لدى البعض – غالبا – ما تكون هوشة تنتهي بنهاية تأثير قراءة العمود، ولكن اصرار ذلك الطبيب دفعني للاتصال بصديقتي المعلمة وطلبت منها الاذن لارسل رقم هاتفها له كي يتفاهم معها على طريقة الدعم الذي يرغب في ايصاله للاطفال ..
وقد كان فقد شكلت المدرسة لجنة برئاسة الناظر لتنسيق الدعم الذي صار يرسله الطبيب شهريا للمدرسة، وحددوا حوالي الخمسين طفلا هم الاكثر احتياجا، وقاموا بتخصيص كراسة للحساب مع بوفيه المدرسة لمدهم بالفطور طوال الشهر، واستمر الدعم الشهري حتى نهاية العام الدراسي، المفاجأة كانت عندما حضر ذلك الطبيب للسودان في اجازته وذهب لزيارة المدرسة وبعد الاطلاع على مجهوداتهم في وجبة التلميذ طلب منهم اخذ الاذن له بمقابلتي، وفعلا حضر مع زوجته لزيارتي في البيت .. كان الطبيب المحسن صاحب القلب الكبير شابا لا يتجاوز الثلاثين من عمره وعروسه عشرينية حليوة ممن نطلق عليهم لقب (اولاد الزمن دا) !!
الكثير من المنظمات والمجهودات الخيرية يقف خلفها شباب في عمر الزهور .. وجبة التلميذ .. كسوة المحتاج .. كتاب الطالب .. كفالة الايتام .. افطار الصايم .. عديل المدارس ووو .. الكثير من افعال الخير يديرها ويقوم باعبائها في صمت متفاني شباب ممن يدخلون في تصنيف اولاد الزمن دا .. شباب من ذوي الشعور الاندومية والقمصان التي شيرتية وشابات من متابعات الموضة الجويلية .. شكلهم قد يصنفهم كـ حناكيش لا يرجى منهم فائدة ولكن لهم قلوب من ذهب .. ولسه دنيا الشباب بي خيرا

منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]

‫2 تعليقات

  1. [B][COLOR=#EA124D][SIZE=4][FONT=Arial]اولا لكي التحية استاذة مني ، وانا من اشد المعجبين والمتابعين بصورة مستمرة لكل مقالاتك ، واجد متعه لاتوصف في قرات ماتكتبين واكثر مايعجبني في كتاباتك الاسلوب السلس في التعامل مع العامية السودانية والامثال السودانية الرائعه التي تستشهدين بها ،،،اما تعليقي علي هذا المقال : فاقول: نعم قد تجدين من (اولاد الزمن دا) من اذا رأيتيه من اول وهلة قد لاتظنين به خيراً ، ولكن داخله مختلف تماما عن مظهره ومايرتديه _ دي لزوم مواكبة الملابس دي ومجاراة للموضة لكنها كما توصلتي للحقيقة لا تعكس شخصية صاحبها الحقيقية..[/FONT][/SIZE][/COLOR][/B]