منى سلمان

مقدرة .. مرة الميت حلوة حلا

‫مقدرة .. مرة الميت حلوة حلا
تمت ايام العدة، واكملت حاجة فاطمة ارملة المرحوم حمدنا الله في محبسها اربعة اشهر، وبعد صلاة فجر اليوم الحادي عشر بعد الاربع شهور، خرجت في عتمة الفجر شقيقتيها سعدية وأم الحسن برفقة عمة اولادها حاجة بخيتة، وتوجهن لطرف الحلة بحثا عن عربة اجرة تحمل الحاجة فاطمة للمقابر لزيارة قبر زوجها المرحوم، للترحم عليه وقراءة الفاتحة على روحه والتحلل من حقه وذنبه، ولكن طالت بهن الوقفة و
عزّت الركوبة، فكل من وجدنه في الموقف من سائقي التكاسي والامجادات وحتى الرقشات، رفض رفضا باتا العودة معهن للحلة لايصال حاجة فاطمة للمقابر، وما زاك إلا للاعتقاد الراسخ في النفوس أن أول رجل تقع عليه عينيي أرملة الميت يوم خروجها من محبسها يموت عاجلا وليس آآجلا !!
وبما أن أهل الحلة كلهم معارف وأهل بعضهم البعض، فقد تسامع سائقي عربات الاجرة من رجال الحي عن اليوم الموعود لخروج حاجة فاطمة، لذلك حلفوا راسهم والف سيف مافي زول منهم يمشي يوصلا المقابر .. هو القنعان من روحو منو ؟
– يا نسوان خافن الله سيدكن .. مرة الميت عرّضوها يوم مرقتا للحمار .. مات !! دايرني امش بي كرعي لي اجلي ؟ امشن شوفن ليكن زول قنعان من رويحتو يمش معاكن !!
هكذا اجابهن ود التوم في حده من وراء شباك أمجاده المهكع، فتركنه وسعين خلف غيره ولكن لم يستجب لرجاءاتهن واغراءاتن باجزال العطاء احد، وكادت الشمس تخرج من وراء مخبئها وتشرق للوجود، وبذلك ينهد ركن من اركان الطقوس الوثثنية لخروج مرة الميت من محبسها، والتي تقتضي توجهها لزيارة قبر المرحوم في المقابر قبل بزوغ الشمس اليوم الحادي عشر !!
في عز حيرتهن وتلفتهن اذ بهن يلمحن تاكسي حاج عوضين المتهالك يتقدم متدحرجا نحو الموقف .. اسرعن لمقابلته في منتصف الطريق مخافة تعرضه للتحريش من رفاقه، ولكن لم تكن بهن حوجة للتحنيس، وذلك لان ذاكرة حاج عوضين الغربالية قد قامت بتصفية موضوع مواعيد خروج حاجة فاطمة، لذلك رحّب فورا عندما طلبن منه أن ينقلهن مشوار لزيارة قريبة لهن تسكن بالقرب من المقابر فوافق فورا، وعندما ركبن معه قالت له سعدية بصوت مرتفع وكأنها تذكرت شيئا ما:
هي ووواي يا دي .. أمانة ما نسيت ليكم جردل الخبيز المودنو للجماعة !
وهنا تبادلت النسوة اللوم على نسيان الجردل المزعوم، ثم طلبن منه العودة لمنزل المرحوم حمدنا الله لاخذه، فاستدار الرجل بكل اريحية وعاد بهم للحلة حتى وقف امام المنزل، فنزلت احداهن لتحضر الجردل بينما بقيت المراتين في مجلسهن في صمت، فسرح حاج عوضين وراء غنم ابليس وهموم المعايش فلم ينتبه الا وباب السيارة الخلفي يفتح وتدخل منه امرأتين .. التفت ليحيي القادمة الجديدة فاذا به يواجه حاجة فاطمة بوجهها الشاحب متلفحة بالبياض !!
صرخ الرجل صرخة عظيمة كادت تخرج بروحه، ثم اندفع مبتعدا عنها قدر المستطاع حتى انه قفز من شباك باب المقعد المجاور للسائق، وانطلق جاريا عافيا حسير الرأس وهو يصرخ ويسب ويشتم:
حاجة فاطنة ؟ دايرات تودّرني يا نسوان ؟ الله لا تاجركن ولا غزّ فيكن بركة !!
لم يكن التطير والتشاؤم قديما من المرأة المتوفي عنها زوجها يقتصر فقط على لحظة خروجها من الحبس، والاعتقاد بأن اول رجل تقع عليه عينيها يموت من فوره، ولكن من ضمن المعتقدات القديمة في مجتمعنا وفي كثير من المجتمعات العربية، والتي بدأت في الاختفاء بل والتغير للضد تماما، عادة التطير والتشاؤم من المرأة التي يتوفى عنها زوجها في كافة احوالها وحركاتها وسكناتها .. فقد كان الاعتقاد الجازم قديما بأن الأرملة خاصة اذا توفى زوجها بعد عقد القران أو الزواج مباشرة انما هي نذير شؤم يتجنبها طالبي الزواج، ولا يتبالى بالزواج منها وتحمّل كراعا الناشفة غير مجبور أو طامع ..
طبعا المجبور هنا في الغالب هو اخ المرحوم اذا ما مات شقيقه وخلف وراءه زوجة فيها الرمق وبعض الرقشة، واطفالا يخاف عليهم من التشرد والضياع بفعل عدم قنعان امهم من الدنيا ورجاءها الزواج مرة أخرى .. من أجل ذلك يضحي الاخ ويتقدم للزواج من أرملة أخيه من باب سد الذرايع .. نخوة ورجالة وقيام بالواجب ولو على جثته.
ذاك عن المجبور، أما عن الطامع فهو الذي يرمي بنفسه في التهلكة ويخاطر بالزواج من ارملة عاجلت المنية زوجها قبل ان يتمنى أو يتهنى بها، وذلك فوق شرط واحد، وهو أن يكون المرحوم قد ترك لارملته من الاملاك والاموال المنقولة والملبوسة اساورا، ما يشكل له حافزا واغراء لا يقاوم بالزواج من تلك الارملة الذهبية رغم المخاطر !!
وهذا النوع الاخير الذي يسعى وراء ارملة الميت لمالها تفشى في الاونة الاخيرة بصورة لافتة، وما ذاك الا تفشي ظاهرة أخرى موازية لتلك الظاهرة وهي زواج الشابات صغيرات السن من شيوخ وكهول في عمر آباءهن أو حتى في اعمار جدودهن ..
يعتقد العقلاء ان فارق السن المناسب عندما يكون لصالح الرجل يساعده على القوامة واحتواء المرأة واحترامها له، لذلك ينبغي أيضاً أن تكون الزوجة أصغر سناً من الزوج لاعتبارات جسدية واجتماعية ونفسية ..
ولكن قد يكون من ضمن دوافع كبار السن للزواج من فتيات صغيرات من جيل ابناءهم نوع من خوف الشيخوخة، وتوهم أن الارتباط بفتاة صغيرة يجعل الشباب يعود ويتجدد، وهناك من الرجال من يرغب في صغيرات السن اشباعا لرغبة في ان يكون في حمايته كائن صغير ضعيف يحتاج لحمايته ورعايته وتدليله، وحتى لا نظلمهم نقول أن هناك من يقدم لفعل ذلك بدافع الحب ولا شيء غير الحب .. الريد قسم يا عيني !!
ان كانت دوافع رغبة زواج كبار السن من الصغيرات تبدو مقبولة أحيانا، إلا ان نوايا الطرف الآخر يشوبها سوء الظن والاتهام بالمادية، فالغنى والمركز الاجتماعي للرجل الكبير في السن من عوامل الجذب للكثير من الفتيات .. لا أذكر أنني قد سمعت عن شابة تزوجت رجلا في سن والدها وكان فقيرا ومعدما فقط حبا في سواد عينيه .. يطرشنا !!
ورغم ذلك وحتى لا نظلمهن ايضا نقول ان بعضهن يبحثن من خلال ارتباطهن بـ العجائز عن الحب والحنان والحماية والكفاية، وبخاصة الحب والحنان الذي يعوض عن الحنان الأبوي اذا كانت العروسة يتيمة أو حرمت من والدها لخلاف او طلاق ..
على كل حال، قديما قال ابن الجوزي مخاطبا عجوزا تزوج من شابة في عمر احفاده:
واعلم أنها تعد عليك الأيام لترثك استعداداً لغيرك !!!
وسواء ان كان الامر بريئا أو يحمل شبهة المادية من جانبهن والتجوهل من جانبهم، يظل زواج الصغيرات من كبار السن سببا في تكاثر اعداد الارامل الجميلات الصغيرات المكتنزات ذهبا وفضة واملاك، وسببا اخر لتغير الاغنية الشهيرة:
هيي مقدرة .. مرة الميت حلوة حلا

منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]