استقبال حار ولكن منعش
وهبطت طائرتنا التي أقلعت بنا من لندن في مطار الدوحة، واستقبلتنا المدينة بحرارة تفوق الأربعين درجة على مقياس سيلسياس (في زماننا كانت الدرجات تقاس بالفهرنهايت والسنتيقريد وفجأة اختفت الأخيرة بعد أن صار اسمها سيلسياس… كل هذا لأنه لا كلمة لنا في تحديد المعايير والمكاييل.. فمثلا قبل سنوات قليلة اجتمع علماء فلك في الغرب وقرروا خفض درجة بلوتو من كوكب إلى كويكب، وبداهة فإن هذا يتعارض حتى مع أكثر قوانين العمل تعسفا وتحاملا على العاملين، إذ لا يجوز خفض الدرجة، من دون إخضاع الطرف الذي سينال الخفض لمجلس تأديب ومحاسبة، ولكن الفلكيين الغربيين، وبكل عجرفة قرروا ان لقب كوكب كبير وكثير على بلوتو، من دون ان يشرحوا لنا لماذا غضبوا عليه، بل لم نسمع بالأمر إلا من تسريبات صحفية، ولهذا ما تزال كتبنا الأكاديمية تقول ان بلوتو أحد كواكب المجموعة الشمسية وأنه بالتالي سيم سيم وكتفا بكتف مع المريخ وزحل والمشتري والزهرة وغيرها).
وهكذا عدنا من لندن إلى الدوحة في عز صيف عام ١٩٩٦، ولكن حرَّها كان بردا وسلاما على قلوبنا التي كاد الصدأ أن يعلوها من برد لندن وكآبة مبانيها وقسوة العيش فيها.. ولندن مدينة رائعة تستطيع ان تقضي فيها عطلات ممتعة أو أن تقيم فيها على نحو دائم، بس بشرط أن تكون خالي طرف: لا عيال ولا دوشة، ولديك الحد الأدنى من مال يكفل لك العيش الكريم أو العيش والفول او العيش واللحم (العيش في السودان ومصر هو رغيف الخبز بينما يعني في الخليج الأرز)، لندن مدينة قد تعيش فيها عشر سنوات متصلة ومع هذا هناك ما تخبئه لك لتدهشك به، ولو تابعت فقط فعاليات الجاليات العربية فيها، لقضيت وقتا ممتعا ومثمرا، فهناك عرب يقيمون في المهاجر استفادوا من مناخات الحرية، فنهلوا من ينابيع الثقافة المتنوعة، وصاروا أكثر وعيا بأهمية الاستعصام بثقافتهم، مع رفدها بما اكتسبوه من معارف جديدة، فتجدهم يشكلون الجمعيات وينظمون الندوات والمحاضرات والمعارض، وبالمقابل هناك تنابلة مكثوا في لندن وغيرها من العواصم الغربية فوق العشر سنوات وإذا أراد الواحد منهم الذهاب إلى طبيب أسنان يلجأ إلى الطريقة القرداحية (أي يستعين بصديق ليشرح للطبيب ما به من علة… مع ان التعامل مع طبيب الأسنان لا يحتاج إلى كلام، لأنه سيقوم بفتح فمك على كل حال… ويحضرني هنا لغز طريف طرحه علي أحدهم مؤخرا: دخل شخص أبكم – أي عاجز عن الكلام – متجرا لشراء فرشاة أسنان، فكيف شرح للبائع ما يريد؟.. بسيطة: حرك أصابعه فوق أسنانه تقليدا لحركة الفرشاة، ففهم البائع مقصده.. طيب بعدها دخل رجل أعمى المتجر لشراء نظارات شمسية لأمه فكيف شرح للبائع ما يريد؟
وهناك من تعجبهم الحياة في لندن حتى وهم يعانون من شح المال، وهؤلاء في معظمهم مثل الكلب الذي عبر الحدود من سوريا إلى الأردن والتقاه في المنطقة الصحراوية كلب أردني جربان، لاحظ ان الكلب السوري ملظلظ أي ممتلئ الجسم عريض المنكعين شلولح، فسأله عن طعامه في سوريا فقال الكلب السوري إن أصحابه يطعمونه الستيك والنقانق/ السجق ولحم الدجاج، فما كان من الكلب الأردني إلا أن صاح فيه: مجنون أنت تسيب كل ها الخير وجاي في الصحراء، فرد عليه السوري: تعرف يا صاحبي.. الواحد فينا لازم ينبح على راحته بين الحين والآخر (بالنسبة إلى الأعمى الذي دخل المتجر لشراء نظارة لأمه فليس لديه مشكلة لأنه يستطيع ان يتكلم.. وإذا كانت إجابتك غير ذلك، تعيش وتاخد غيرها).
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]