مقالات متنوعة
(زولة رقيقة وحساسة .. جدا )
وعندما يتعطل المكيف في المعمل ويترافق ذلك مع وجود مروحة عديمة النفع ودرجة حرارة في الخارج تصل حد التبخير ، فإن الحياة تصير مستحيلة بالداخل مع كل العرق والروائح الغير كريمة التي حتما ستم
لأ المكان … ولكن في عمل كعملي أنت لا تملك ترف أن تختار .. تلك هي حياتك ويجب أن تقبل بها .. لو رفع كل منا أنفه أو أغلقها ، فمن لهؤلاء المرضى ليعرف مم يعانوا ؟ قلت هذا لنفسي وأنا أمسح قطرة عرق لعينة نزلت كماء النار على عيني … قلت هذا وأنا أصفع وجهي للمرة العاشرة محاولا ضرب ذبابة لحوح تهبط بإصرار على طرف عيني ، هذا طبعا غير تساؤلات المرضى الأزلية عن تأخر نتائجهم … ووسط كل هذه الدوامة ظهرت هي ودخلت المعمل … لا لم تدخل .. هناك أشخاص يدخلون وأشخاص يقتحمون المكان ، ولكن هذه هبت كنسمة وتسللت كعبير وأنتشرت كعطر … كانت أجمل وأرق فتاة رأيتها في الدنيا .. ذلك النوع الذي يمكن أن يجرحه ظله ويرهقه الإبتسام … سلمت على وقالت بصوت حالم يناسب مظهرها :
– أنا طالبة وساكنة هنا وعايزة أتدرب معاك في المعمل .. سمعت إنك جديد في المنطقة دي
حاولت أن أتكلم ولكني فشلت فصدرت عني كحة خشنة أخفيتها بسرعة حتى لا ترعبها .. أنا لا أقبل بتدريب الطلبة وقد طردت أمس شابين أرادا التدريب معي ، ولكن هل أنا مجنون لأرفض طلبها ؟ فالتأتي وتجلس في مقعدي لو أرادت فلن أعترض … جلست بينما أنا بإرتباك أحاول فحص ما تبقى عندي من عينات .. هناك طفل مطلوب له فحص دم راح يصرخ كأنني سأسلخه حيا ، وأنا أصارع يده وأمه تمسك باليد الأخرى .. أمسك بالثاقبة وأقول له :
– أهدا يا ود .. إنت ما راجل ؟
صرخ برعب وهو ينظر للإبرة :
– لا أنا مرة عديييل ، بس زح البتاعة دي مني
صدرت ضحكة من الفتاة .. ضحكة جعلتني أكاد أنتزع سكين وأغرسها حتى المقبض في بطن الطفل لو إن هذا كافيا لتواصل ضحكتها … مالذي جاء بها لهذا المجال الذي يعوي فيه الأطفال وتسيل فيه الدماء ؟ .. كان يجب أن تدرس كلية علوم الزهور قسم تربية الفراشات … ورحت أحاول أن أشرح لها مرتبكا وهي تتابعني بعينيها الساحرتين … إبتسمت وقالت إنني رهيب في الشرح ، فسمعت صوت شئ ينكسر .. قالت لي :
– في أنبوبة وقعت
كدت أقول لها إن هذا هو صوت أحد أضلاعي قد إنكسر .. من قال إن الأضلاع والخواطر تنكسر بدون صوت ؟ … قالت لي وهي ترفع يدها لتمسح عن جبينها قطرة عرق :
– الجو هنا مسخن شديد
في ظرف ثلاث ثواني إختفيت من أمامها وظهرت أمام صاحب البقالة ثم أختفيت من أمامه وظهرت أمامها حاملا منديل ورق وقارورة ماء ، فشكرتني ومسحت جبينها بالمنديل .. هذه من المرات النادرة في حياتي التي تمنيت فيها أنا أكون منديل ورق … وراح المرضى يحتجون على إنشغالي والتأخير وعم عوض يصرخ محتجا بإن نتيجته أظهرت إنه حامل وإمرأة أخرى تقول ألخ ألخ ولكني لم أكن مشتغلا بهم … وفي النهاية جاء ذلك المريض ثقيل الظل وأقتحم المكان مادا ورقته ، نظرت له وقلت :
– عايزين عينة فسحة
– يعني شنو فسحة يا دكتور ؟
– فسحة يا بني آدم .. فسحة
نظر لي بتساؤل كأن الكلمة غريبة عليه ، فأختلست النظر للفتاة بإحراج وأنا أردد :
– جيب فسحة .. ف س ح ة
نظر لي بنفس الغباء ، فوقعت في المصيدة .. وبينما أنا أحاول الشرح نهضت الفتاة .. نهضت برقة ومشت بدلال ، وتناولت مني إناء جمع العينة وقالت بصوتها الذي يقطر عذوبة :
– إنت ما بتفهم ؟ شيل البتاعة دي وأمشي جيب لينا …….
الكاتب الساخر : د.حامد موسى بشير