الكلام والرك ليس على «اللون»
الخواجات عموما يعتبرون كل شخص أسود مجرما أو «مشروع مجرم»، وفي الأعوام الأخيرة صار كون المرء مسلما في دولة غربية، يجعله موضع شبهات، وبمعايير الغرب فقد اجتمعت تشكيلة من المواصفات غير المرغوب فيها في أبي الجعافر: إفريقي بسمرة «تلعلع»، وعربي، وفوق هذا كله فإنه مسلم.. ويا ما عانى كثير من الخواجات خلال التعامل معي، لأنني من يمارس الاستعلاء عليهم، فقد زاملت منهم العشرات لسنوات طويلة واكتشفت ان معظمهم سطحيون وجهلة، ولكن العتب علينا نحن فمازلنا نرى أن بياض البشرة في حد ذاته مؤهل رفيع فنأتي بصعاليك أوروبا وأمريكا ونضفي على كل منهم لقب «خبير»، ونتعامل مع أفكاره وقراراته وكأنها «منزلة لا يأتيها الباطل من قبل أو دبر».. أذكر أن السفارة الأمريكية في الخرطوم أبلغتنا ذات مرة أن ملحقيتها الثقافية استجلبت خبيرا في مجال العمل التلفزيوني ليقدم لنا محاضرات فنية في التلفزيون السوداني (وكان ذلك بعد عودتنا من لندن بعد دورة دراسية تعلمنا خلالها أبجديات إنتاج البرامج التلفزيونية).. وجلسنا ومعنا أساطين الإنتاج والإخراج التلفزيوني من السودانيين الذين تدربوا على تلك المجالات في ألمانيا وهولندا وبريطانيا ومصر – مع الأخذ في الاعتبار أن السودان والعراق هما أول دولتين عربيتين أنشأتا محطات تلفزة في مطلع الستينيات.
المهم وقف الخبير الأمريكي أمامنا وطفق يقول كلاما من النوع الذي نسميه في السودان «خارِم بارم»، أي غير مترابط وبلا معنى، ويخاطبنا وكأننا «يا دوب» سندخل مجال العمل التلفزيوني: عندما تريد تقريب الصورة تضغط على زر الزوم في الكاميرا.. واللقطة القريبة اسمها «كلوز أب»، واستمر على هذا المنوال نصف ساعة فرفعت يدي طالبا الإذن لأتكلم، فقال لي بكل تهذيب: بليز.. سأتلقى الأسئلة وأرد عليها بعد أن أفرغ من المحاضرة.. ووجدت نفسي أقول له ما معناه: أي محاضرة وأي بطيخ؟ هل تحسب أننا ندير محطة تلفزيون منذ أكثر من ١٥ عاما ونحن لا نعرف ألف باء العمل التلفزيوني؟ تعال أجلس بيننا واختر أي واحد من الجالسين أمامك الآن ليحدثك عن آخر أفانين العمل التلفزيوني لأنه من الواضح أنه لا علاقة لك بهذا المجال.. والتفت إلى زملائي وقلت لهم: هل تتفقون معي فيما قلته؟ قالوا: جداً… والسودانيون يستخدمون هذه المفردة كتعبير مكثف للاتفاق والقبول والطمأنة: أحوالك كويسة؟ جداً.. ما رأيك في أن نزور عبد الباقي في المستشفى؟ جداً.. أنت متمسك برأيك وموقفك؟ جداً… ولما وافقني زملائي الرأي «جداً» اقترحت عليهم ان نترك القاعة، وخرجنا وصاحبنا لا يصدق أن «سودانيين» يستخفون بأمريكي.
ولكن ليس كل الخواجات سطحيين، ولا كل السود مبرؤون من الإجرام، فلولا ان الخواجات يفكرون ويخترعون ويبدعون لظللنا في عصر البخار، نلطم الخدود على حمامات البخار في الأندلس (التي بكى آخر ملوكها، أبو عبد الله محمد بن علي، ضياعها كما النساء بعد أن فشل في الدفاع عنها كما الرجال، على حد تعبير أمه)، وما من شك في ان معدلات الجريمة بين سود بريطانيا والولايات المتحدة عالية، ولكن المؤكد أيضا أن معدلات البطالة بينهم عالية بسبب التمييز ضدهم في الفرص التعليمية والوظيفية، والفقر من أكبر الدوافع للجريمة، وما من فتاة ثرية تهاجر من دول البلطيق إلى أوروبا الغربية لممارسة الدعارة، ففي دولة مثل مولدوفا يلجأ «الشرفاء» إلى بيع الكلى لضمان قوت العائلة لعام واحد.. وأحسب أنني أعرف جيدا أحوال السود في جنوب لندن وبالتحديد منطقة بريكستون ومحيطها.. وكنت في السبعينيات أتجول فيها بحرية في أي ساعة من اليوم، ولكن سواد بشرتي لن يعصمني اليوم من التعرض لاعتداء من قبل شخص أسود يدمن الخمر او المخدرات ليسلب مني محفظة نقودي وهاتفي ونظارتي الطبية (لصوص الشوارع يركزون على الهواتف الجوالة والساعات ولسوء حظهم فإنني أكره الساعات مثل كرهي لفاروق الفيشاوي).
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]