يوم أصبحت «عربيقيا»
بدأت أحكي لكم كيف أن مجموعتنا من الدارسين السودانيين في لندن، خصصوا لها سكنا في «بيت الشباب الكاثوليكي»، وكان ذلك زمان لم تكن فيه أمور الانتماء الديني تثير حساسيات بين الناس، ولم يكن الخواجات- كما هو الحال اليوم – يعتبرون كل مسلم «مشروع إرهابي»،.. والكلام جاب الكلام وتذكرت كيف أن جامعة الخرطوم التي درست فيها كانت تضم طلابا من مختلف القارات، لأنها كانت جامعة تهز وترز.. وعدت بالذاكرة إلى يوم كنت فيه في القاهرة، وأحسست بأشياء عجيبة في جسمي: تشويش وثقل في الرأس، وصادفت عيادة طبية، ورغم انتهاء موعد استقبال المرضى فإنه ما أن رآني الطبيب حتى هش للقائي، وسألني عن علتي، ولم أكن أعاني من أعراض معينة، فشرع الدكتور في قياس ضغط الدم، وسألني من إلى اي جزء من السودان انتمي، وكعادة كل من ينتمون إلى بلد كالسودان فيه عشرات الآلاف من القرى، فقد اختصرت الموضوع وقلت له إنني من الخرطوم، وفاجأني بقوله: مفيش حد يقدر يقول إنه من الخرطوم، لأن كل أهلها وافدون من الأقاليم… والمفاجأة الثانية هي أنه قال لي إنه ابتعث إلى كلية طب جامعة الخرطوم في الستينيات ضمن برنامج التبادل الطلابي، و«عجبه الحال» فأكمل دراسته هناك، وبالتالي تيسر له الحصول على قبول في مستشفى في بريطانيا للتخصص، وكان ذلك زمان تقبل فيه الجامعات البريطانية خريجي جامعة الخرطوم بدون سين او جيم.. (كان جيلنا ومن سبقونا يجلسون لامتحان كيمبردج لدخول الجامعات) وحدثني عن حبه للسودان وجمائل جامعة الخرطوم عليه… وظللنا نتونس نحو ساعة وكان بين الحين والآخر يقيس ضغط الدم، ثم قال لي: قياس الضغط الأول عندك كانت نتيجته ١٨٠ على ١٢٠، وبعد الونسة والاسترخاء انخفض الضغط إلى معدلات عادية، وعزا الأمر إلى «التوتر»، وكان على حق، فقد كنت في القاهرة وزوجتي حامل بطفلنا الثاني، بعد ان قال لنا طبيب في أبوظبي إن كمية الأوكسجين التي تصل إلى الجنين ضئيلة، مما يعرضه ومعه الأم إلى الخطر (جات سليمة وولدت ابنتي عبير بعد ان أكملت النصاب القانوني في بطن أمها أي تسعة أشهر).
أعود إلى لندن وانتقالنا الى السكن في بيت الشباب الكاثوليكي بالقرب من محطة مانر هاوس لقطار الأنفاق (خط بيكاديللي الأزرق).. كان في قاعة الاستقبال رجل تجاوز الخمسين من العمر رحب بنا وقال لنا إنه «فاذر ماكلوسكي» أي الأب/ القس ماكلوسكي.. بسم الله وما شاء الله، يعني ليس بيت شباب كاثوليكي فحسب، بل ان المشرف على الدار قس كاثوليكي،.. كان رجلا ودودا وطلب منا تعبئة استمارات بأسمائنا وعناويننا إلخ، وفجأة سألني: هل أنت عربي أم إفريقي؟ أربكني السؤال فصمتلا طويلا وقلت له إننيnaibarfA وترجمتها «عربيقي».. لم تكن مسألة «الهوية» مطروحة بحدة في سودان ذلك الزمان، وكنا نعرف أننا أفارقة بحكم الجغرافيا واللون وأننا أهل الشمال والوسط عرب بحكم اللسان والثقافة.. وأعجب عمو ماكلوسكي بتلك الكلمة وسجلها في ورقة صغيرة وهو يضحك، فقلت له: لو أردت الدقة فإنني عرنوبي (عربي – نوبي) وبما ان النوبة سلالة إفريقية عريقة فإنني سأصنف نفسي اعتبارا من تلك اللحظة كعربيقي.
وأود هنا تذكير القراء بأن هذا المقال وما سبقه من مقالات خلال الأسابيع الماضية وما سيتلوه من مقالات بإذن الله، جزء من سلسلة مقالات اعتزم اصدارها في كتاب يحمل اسم «العربيقي» يحكي تجربتي كشخص «لحم راس» من حيث الهوية في أول زيارة له لبلد أوروبي.. مش بلد أي كلام، بل بريطانيا ذات الشنة والرنة.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]