المال في حياة الزعماء والمشاهير
اعتزال السياسة بسبب الفقر أحد القيادات والكوادر الحزبية بسبب طول «عمر» النظام الحالي الذي أمضى حتى الآن في الحكم «24» عاماً ومرشح للزيادة، وصل حد الكفاف والفقر المدقع مما اضطره إلى اعتزال السياسة والاتجاه نحو أعمال هامشية لا تسد الرمق ولا تسمن ولا تغني من جوع من أجل توفير قفة الملاح لأبنائه.. بعضهم غادر البلاد مضطراً وتلمس طريقاً نحو الاغتراب بحثاً عن لقمة العيش الكريم لطالما ضاقت بلادهم واستحكمت حلقاتها.. وبعض رموز المعارضة وكوادرها وشبابها بعد أن ضربوا «أخماساً في أسداس» تلمسوا طريق النجاة من المسغبة في الانضمام لحزب الحكومة «المؤتمر الوطني»، فالحاجة للمال أصبحت العنوان الأبرز في ساحة المعارضة السودانية، والبحث عنه بوسائل متعددة هو الشغل الشاغل باعتبار أن هذه الأحزاب تعيش أوضاعاً مالية مزرية.. وغداة انضمام أحد أقطاب أحد الأحزاب المعارضة إلى حزب المؤتمر الوطني، سألت أحد زملائه عن ملابسات انسلاخ «القطب» وانضمامه إلى حزب السلطة، فرد بلا تردد وعلى الفور: يا أخي نحنا مقدرين ظروفو ومتفهمين لموقفو دا، لكن أؤكد لك أنه سيعود إلى حزبه بعد انقشاع هذه السحابة، وزاد قائلاً: بس هو عندو شوية مصالح خايف تتعطل.. وقلت في نفسي يعني دي الخطة «ب».
إلى حزب الأثرياء قبل تسع سنوات كنت وقتها مدير تحرير صحيفة «الشارع السياسي»، وفي تلك الأثناء هاتفني قيادي بارز في المعارضة وأحد رموز الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهذا القيادي كان في حكومة الصادق المهدي يشغل منصب وزير في وزارة مهمة جداً، وكان ملء السمع والبصر من حيث النزاهة والاستقامة والعفة.. المهم أن السيد الوزير اتصل وأبدى بعض ملاحظاته على موضوع كتبته، وطلب أن تتاح له الفرصة للرد، لكنه فاجأني بقوله: «والله يا ولدي أنا الرد عليك كتبته لكن اُشهد الله يا ولدي أنا هسي حق المواصلات البجيبني الجريدة ما عندي» ثم طفق يحدثني عن أحوال بعض زملائه المعارضين في الداخل والخارج، وهي قصص مؤلمة ومحزنة جداً تصور مآسي قادة وكوادر المعارضة في السودان ومعاناتهم مع «عطية» والحكومة.. وطالت السنوات وتراكمت أنقاض المعاناة، وما لبثنا إلا قليلاً حتى رأينا السيد الوزير قد خلع ثوبه القديم مضطراً وارتدى آخر في موسم الهجرة إلى كيان الأثرياء ربما ليحتمي من ضربات «عطية»، وقد تقلد منصباً هامشيا هناك، واستمر في الاسترزاق منه حتى جاء قرار إعفائه منه دون سبب معلوم بالنسبة له، كما أخبرني قبل عدة أيام. معارك وهمية القصة أعلاه يعززها حديث جانبي سمعته من الأستاذ علي محمود حسنين القيادي الشرس بذات الحزب حينما كان عنصراً صلباً في معارضة الداخل، حيث أكد لي أن زملاءه في التجمع الوطني الديمقراطي بالخارج يعانون ظروفاً مالية صعبة، وكان الحديث في إطار التضحيات التي تقدمها قيادات المعارضة حالياً بالخارج، وقال لي نحن بالداخل أفضل حالاً منهم حيث نعمل ويعرف بعضنا أحوال البعض، وأكد لي هذا الحديث أيضاً أحد القادمين من لندن، حيث التقى مجموعة منهم ونقل لي الحالة المزرية التي يعيشها بعضهم، لذلك عندما ظهرت بارقة أمل لم يترددوا في العودة إلى الداخل وتعلقوا بالقشة التي قصمت ظهر البعيرفي «جدة»، وأمسكوا زبد البحر في «القاهرة»، وظنوا أنه طوق نجاة لتبدأ بعد ذلك رحلة «الجرجرة» والمناورات والتاكتيك والمزايدات السياسية في معارك وهمية مع نظام المؤتمر الوطني، ظاهرها التغيير المنشود والمصالح العليا للبلاد والرخاء لشعبها، وباطنها البحث عن المواقع لآل الزعيم وحوارييه المقربين منه ومال التعويضات. مغازلة النظام مع بداية إرهاصات عودته للبلاد، اختلف الصادق المهدي مع المعارضة وجمّد عضوية حزبه بالتجمع المعارض، ليتحرك بحرية للقاءات ومغازلة النظام، وذهب إلى جيبوتي ليصطاد «فأراً» فاصطاد «فيلاً» كما قال ذلك في حديث الإطراء على اتفاق «جيبوتي» المسمى «نداء الوطن»، وعاد المهدي الذي خرج متخفياً من البلاد في ديسمبر1996م عبر عملية «تهتدون» الشهيرة، وعاد في مطلع عام2000م ليبدأ مشوار الغزل السياسي مع النظام من الداخل، وكانت تقديرات المهدي لوضع خصومه الإنقاذيين تقول إن هؤلاء «الجماعة» على درجة عالية من الضعف ويعانون من العزلة الدولية، وإن النظام يوشك أن ينهار، وذلك بسبب الحصار والعزلة وحالة الاختناق التي كانت تعاني منها الحكومة بفعل القطيعة الدبلوماسية العالمية وتعدد جبهات القتال من جهة الجيران، وقراءة المهدي كانت صحيحة إلا أن ظروفاً دولية تتعلق بأحداث الحادي عشر من سبتمبر «2001م» وما ترتتب عليها داخلياً واستعداد الخرطوم للتعاون الأمني مع أمريكا واعتقال الترابي وإبعاده باعتباره «بعبعاً» يحذره الأمريكان، هذه الظروف الجديدة ضخت الدم في شرايين نظام الحكم الذي كان يترنح وقتها.. ومن هنا بدأ المهدي سياسة جديدة مع النظام وتحول حزبه إلى حزب معزول عن محيط المعارضة، وفي نفس الوقت معزول عن محيط الأحزاب الموالية للحكومة، وهذا الوضع في رأي البعض جعل الحزب ينال «رضاء» الحكومة بسبب السياج الذي وضعة بينه وبين أحزاب المعارضة التي تعتبرها الحكومة من ألد خصومها نظراً لارتفاع صوت اليسار بداخلها، وفي نفس الوقت يحفظ للحزب «قليل» من ماء الوجه. فك الاختناقات المالية عودة حزب المهدي إلى الداخل ووضعه «البين بين» الذي أشرنا إليه أتاح له فرص «التفاهم» المستمر مع رموز النظام وقادته ومقابلتهم في أي وقت دون كبير عناء، وأوجد الفرصة للحصول على «التعويضات» التي حصل الحزب على «9» مليارات منها أيام الانتخابات كما تردد بقوة، ولا يدري أحد على وجه الدقة كم حصل الحزب من تعويضات أخرى.. وقد ساهمت هذه التفاهمات في دخول نجل المهدي القصر الجمهوري مساعداً لرئيس الجمهورية، ودخول آخرين الجيش والأمن.. إذن عودة الحزب ساهمت في حصوله على بعض المبالغ التي يعتبرها حقاً مستحقاً، وبذلك يكون الحزب قد فك حالة اختناقاته المالية.
وحزب الترابي كان أيضاً من أبرز مطالبه لاستمرار الحوار مع الحكومة إطلاق سراح المعتقلين، وتعويض الحزب مالياً لجبر الأضرار التي تعرض لها، ومضى الحوار في أوقات كثيرة، وتلك البنود حاضرة في اللقاءات السرية والمعلنة، مما يعني أن «الشعبي» يريد ذات الطريقة التي حصل بها «الأمة» على المال لتسيير أمره، إلا أن وضعه داخل المعارضة والذي بدا مهدداً ومزعجاً للمؤتمر الوطني حال دون ذلك.
أما الحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة مولانا محمد عثمان الميرغني، فقد أصبح الآن شريكاًَ كامل الدسم ويتمتع وزراؤه بالمخصصات المالية والامتيازات مثل «إخوانهم» في المؤتمر الوطني، ولا شك أن هذا الوضع من الناحية المالية للحزب أفضل بكثير عن وضعه وهو في المعارضة، فهناك كثير من التسهيلات والأوضاع الخاصة التي سوف يتمتع بها باعتباره حزباً حاكماً، فقد بدأت رحلة التحول من حزب معارض إلى حاكم يجلس على تلال من المال بعد التخلي عن شعار «سلم تسلم» الذي رفعه «الميرغني» الذي دفع بأركان حربه في التجمع الديمقراطي المعارض أمثال نائبه الفريق عبد الرحمن سعيد، والمحامي فاروق أبو عيسى وغيرهما من قيادات التجمع، للمشاركة في السلطة من خلال البرلمان، ودفع «أبو هاشم» تلك القيادات للمشاركة قبل عودته للبلاد قبل أن يمسك بـ «خطام» الحزب وإدخاله القصر الرئاسي ومجلس الوزراء، ومن ثم دفع بـ «فلذة كبده» للمشاركة في قمة السلطة ليتمتع بكامل الصلاحيات و «المخصصات المالية» رغم قلة عطائه.
صحيفة الإنتباهة
احمد يوسف التاي