رأي ومقالات

الصادق الرزيقي : القشور منعت الناس من تناول الألباب

[JUSTIFY]تنحدر السياسة في بلادنا إلى حضيضها وقاعها السحيق، حيث تنكسف إشراقاتها ويذوي عودها ولا يبقى منها غير الانقسامات والتمزُّقات والتفتُّت الذي يضرب بأطنابه كل يوم في قاحل ترابها وكثيبها الأجرد! وهي تجرُّ معها كلَّ شيء إلي الهاوية!
كنا في السابق نتحدث عن ظاهرة الانقسامات السياسية، لكننا اليوم نتحدث عن نفور الوجدان السياسي المتَّحد عن أصله وتراكم الأهواء والغوايات والضلال والتشفِّي والانتقام واصطراعات المصالح التي لا يُراعى فيها وجه الله ولا بهاء الفكرة التي جمعت الإخوة الأعداء، وصارت الأحزاب والتنظيمات قميئة وبائسة إلى درجة أنها لم تعُد تشعر بثكل الأم في الولد، عندما يعافها الابن ويمضي بلا عودة، أو تدميه أنيابُها الحداد وهي تنهشُهُ وتشربُ من دمه..
انشغل الناس خلال الفترة الماضية بما فعله المؤتمر الوطني واتَّبعته الحركة الإسلامية، ببعض أبنائهما من الإصلاحيين، لكنهم لم ينشغلوا بأصل الفكرة وجذورها وأسبابها، فالقشور منعت الناس من تناول اللباب، والظاهر الشكلاني غطَّى ببردته ما كان وراء الأكمة وما تحت الستور!
ولعلَّ أهم ما يمكن التنبه له وكما هو معروف في علم الفلسفة السياسية، أنه كلما تباطأت الكيانات الحزبية وخاصة الحاكم منها في تطبيق مبادئها وأفكارها والوفاء بها تضاعف خطر التفكك بضعف الرابط التعاقدي بين المنتمين لهذه الكيانات الحزبية وأفردت الفوضى والتشققات أجنحتها وحلقت فوق الجميع وحامت..
فالعقد والمبدأ الذي يجمع شتيت المنتمين للأحزاب، يأخذ قوته ومشروعيته من قوة الالتزام به والتناصّ معه في القول والفعل، وتجريد المفاهيم واتساع الشورى وإكثار المُثل وتنويع التصورات الفكرية والسياسية وإخصاب الحياة السياسية لتحبل بالتجديد ومسايرة ناموس الحياة..
لكن الأحزاب دائماً ما تتنكب الدرب، وتغلبها غوايتها عن تنسم الرشد وتلجأ إلى تطويع لسانها للتبريرات وتكريس حالة الخوف من أي رأي مخالف وتقوية ونشر الشعور بالفزع والخوف، عندما تحاول النخب السياسية تمرين عضلاتها الذهنية وتنشيط الدورة الدموية للبناء الحزبي وجعل الرئة السياسيَّة تتنفس..
الأصل في ما جرى ويجري وما سيجري، ليس في المؤتمر الوطني وحده، ولكن في كل المجال العام الذي ينشط فيه الناس في السياسة والعمل الاجتماعي والرياضة والفنون والآداب وجميع أدوات المجتمع العامة، أن موجة من الذبول والاضمحلال أصابت الشعارات والأفكار وتبعثرت كل الموجودات ما بين مقبول ومرفوض، وانحسرت مساحات الحوار والنقاشات الجادة والمتجردة التي كانت تقود بلا محالة إلى التلاحم والمساواة ودفن الضغائن!
وأي مشروع إصلاحي يقوم على ركائز موضوعية، وليس على ردات أفعال متعجلة، سواء كانت من الطرف الداعي للإصلاح أو الأصل المراد إصلاحه، فالمشروع الإصلاحي ليس مشروعاً معاكساً في الاتجاه، فإذا كانت روح الانتماء لأي حزب وتنظيم سياسي تقوم على منطق المعاقدة والتعاهد والمبايعة أو حتى المنفعة المتبادلة، فإنَّ ذلك يتطلب فاعلية قوية في الأخذ والرد والجرح والتعديل والنصح والمشاورة وطرح الآراء المخالفة بقوة وووضوح وصراحة والتعاطي معها بالاستحسان أو الاستصحاب والاستئناس في إطار الصالح العام..
لكن في ما يبدو أن ذلك كله فضاء بعيد للغاية عن واقعنا السياسي وعمَّا جرى في المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية والتيار الإصلاحي الذي أُزيح كما البعير الأجرب من باقي القطيع!!
وما من نقيصة تبلغ مداها، مثل العجز عن مقابلة الفكرة بالفكرة والرأي بالرأي، واستسهال الإجراءات العقابية في موضع ليس هو بالضرورة موضعها، مثل وضع السيف في موضع الندى كما في قول أبي الطيب المتنبي المشهور، فما يخدش في المروءة السياسية أنْ ما من سبيل غير الضربة القاضية والطعنة النجلاء للخصم المُتوهَّم دون مراعاة لكسب ولا تاريخ ولا الحق في التصريح بالقول..
هذه في الأصل هي حقيقة ما في اللباب، وليس ما بدا شاخصاً للعيان على ظاهر اليد وفوق قشور الحدث، فكلما انحدرت السياسة وأُرهقت وأعياها إنتاج الجديد، تضطرُّ في تراجعها القسري إلى تكشير أنيابها واللجوء إليها، عوضاً عن تفاعلات عقلها المجمَّد المخفِق في تدارك الأمور واكتشاف مخارج لا تقود إلى فراق!
لربما.. نعم لربما انحدرت السياسة إلى مسلَّمة قديمة قال بها ابن خلدون في تفسير ظاهرة التبعيَّة والتكوُّن السياسي المبني على عصبيَّات وأهواء وضيق بالآخر حين قال «لا يُساس العرب إلا بالنبوة».. فهل تلوَّنت السياسة عندنا بصبغة القداسة، وهل من يملك الصولجان مقدَّس منزه والخروج عليه كفر بواح.. عاقبته الطرد والكشط والإزاحة؟ أم هناك تعليل وتفسير آخر لا تراه أعيننا الرمداء؟

صحيفة الإنتباهة
الصادق الرزيقي [/JUSTIFY]

تعليق واحد