صلاح شكوكو

القانون.. سيرة ومسيرة

القانون.. سيرة ومسيرة
حينما زرته وهو بالمشفى الذي كان يرقد فيه محفوفا برعاية كريمة من أهله والذين يعرفون للرجل تاريخه قدره، لم أجد إلا أن أدعو الله أن يتولاه برحمته وعافيته، فقد كان صاحب الصولات والجولات خاصة في مباريات القمة، تلك التي كانت تلعب في إجواء من الحميمية والتنافس الشريف، وليس كما تلعب الآن في أجواء المشاحنات.

صحيح أنني لم أشاهده في الملعب لكن الكلمات التي تنثر عقب إسمه، كانت تكفي للدلاله على ما سطره الرجل في الملاعب من أبداع وحذاقة وخلق كريم وروح رياضة عطرة، ذلك أننا لم نر هؤلاء الذين مروا على أعتاب التاريخ وزينوا صفحاته، لكننا حينما نقرأ سيرتهم نكون صورة واقعية لخلقهم ومستواهم بين الآخرين، خاصة وأن الراحل كان يكنى بــ(القانون) ولعلها إشارة جلية الى أن الرجل كان منضبط الإيقاع وحسن التحكم ودقيق المراس.

لكنها سنة الحياة والكون، أن تدور بنا الدوائر في رحلة العمر، ليضع الرجل عصا الترحال بعد مسيرة طويلة في الحياة، ترك فيها ذكريات لن يطويها الزمان في دورانه بصورة عاجلة، ذلك أنني إندهشت وأنا أزوره بالمستشفى الدولي بالشعبية، حيث أن المستشفي يقع على بعد خطوات من منزلنا وكان في معيتي الشاب الرائع صاحب القلب الكبير (الطيب البلال) هذا العاشق للنجم الأحمر وكل ما يتصل به، ورغم أنه لم يشاهد الراحل لاعبا، لكنه كان يشعر بأن الرجل من أهل خاصته، لذا لم يكن صديقي مهتما بالرجل فحسب بل متعلق به حد التقدير والوفاء بإعتباره من أهله.

ويبدو أن الراحل برعى أحمد البشير كان نجما من فلك المجرات المؤثرة على الحياة الرياضية، للحد الذي حدا بأحدهم لأن يقول لي بثقة وإقتدار:- (من لم ير القانون فإنه لم ير العهد الذهبي لكرة القدم في السودان).

ترى كيف كان حال الكرة في عهد الرجل المكنى بالقانون، وما سر هذه التسمية التي إقترنت بما ينظم الحياة ويحفظ لها توازنها؟ فالرجل كان في مراسه يمارس لعبة فيها قدر هائل من مساحات الترويح، ولم يكن بها في تلك الأوانات ما يتصل بينها وبين الممارسة الجادة والإحتراف المقنن، ترى من أين جاءه لقب القانون، والرجل لم يكن قانونيا في الجانب المهني.

فقد عرفت ممن حدثوني عنه والذين شاهدوه لاعبا، أنه كان مضرباً للمثل فى الحذاقة والممارسة والتحكم في المستديرة، حتى إنه ما عاد يُذكر إسمه إلا قرينا بالقانون، مثلما كان يوسف مرحوم يُكنى بالمايسترو، مما يؤكد وعيا بالألقاب والمسميات في تلكم الأوانات والأزمان.

لعب الرجل للمريخ فى الفترة ما بين 1951 و1968، وشارك كذلك ضمن المنتخب القومي الذي كان إسمه حينذاك الفريق الأهلى السودانى، لكن ما أكده لي الكثيرون ومنهم الموسوعي (جعفر بله إدريس) بأن الرجل كان نجماً يتوقف الناس لمشاهدته وإلقاء التحية عليه، من فرط إبهاره للجماهير في الملعب، وحينما حاولت أن أقارن بينه وبين لاعبي عصرنا هذا، تهكم الرجل علي في مجرد الفكرة، وهو يتصور أنني لم أستطيع رغم جزالة حديثه أن أقدر للرجل قدره مع كرة القدم التي أحبها فأحبته.

ورغم قناعتي بأن الممارسة في تلكم الأوانات كانت تعتمد على المهارات الفردية، لكن كل محدثي أجمعوا على أن الراحل (برعي) كان على براعة لا تضاهى، ومقدرة لا تجاري، وتحكم في الكرة يصل الى حد الإعجاز والإبهار.

فقد كان الرجل بعد كل مباراة يؤديها هو حديث المدينة لأيام بعد ذلك، بل أن مدينة أم درمان القديمة جلها والذين كانوا يأتون من الأقاليم عبر القطار للإستمتاع بمباريات القمة، كانوا على قناعة من أنهم يجدون ما يكافئ ذلك النصب والتعب، وتكبد المشاق والسفر للعاصمة والعودة بعد اللعب، فقد كانوا يجدون متعة تجعلهم الآن يتحسرون على تلكم الحقبة حتى يومنا هذا .

لكنها هي الحياة، بل هي سنة الله في خلقه أن يتحول ذلكم النجم المتوهج الى جسم عليل واهن ثم يفارق دنياواتنا بهدوء، وكل قسماته تحكي ذلكم الإبداع الذي سطره على مدارج الزمان، والذي لم يجد توثيقا كما يجب، يقرب إلينا إلصورة ويخلدهم في سجلات التاريخ.

تقول سيرته أن إسمه الحقيقي هو (برعى أحمد البشير محمد دولة) وهو من مواليد العام 1935 بأم ردمان بحي الركابية، وإنتهى به المقام أخيرا بحى الثورة شمال أم درمان، درس الأولية بالهجرة الإبتدائية، ثم المرحلة الوسطى بمدرسة حى العرب الوسطى، والثانوية بأم درمان الأهلية.

تفجرت موهبتة من خلال ممارسته لكرة الشراب مع أنداده في الحي، إضافة لمشاركاته في دورات المدارس التي كانت تقام في تلك الفترة، فبدأ حياته الرياضية كلاعب بفريق فريق الحرية أحد فرق الدرجة الثالثة بأم درمان في الفترة من 1948 – 1950، بعدها إنتقل لنادي المريخ عن طريق زميله في وزارة الزراعة حارس مرمى المريخ مصطفى حمد في الفترة من 1950 – 1968 تخللها موسم واحد لعب فيه فى للهلال في العام 1954م حيث كان الإنتقال بين الهلال والمريخ سهلا ويؤكد على جزالة الروح التي كانت تسود، أشتهر الراحل بلقب (القانون) في إشارة قوية لتفرده وحذاقته الأدائية وإسلوبه العالى فى الأداء المهارى ودقة تمريراته وتصويباته.

قاد المريخ إلى الفوز على الهلال ثمانى مرات على التوالى (وهذه المتوالية مشهورة في تاريخ كرة القدم السودانية) حيث كانت في مطلع الستينيات، وقد حقق الفوز للمريخ في بطولة الدورى عشر مرات متتاليات، مثل السودان ضمن أو منتخب سوداني حمل إسم الفريق الأهلى السوداني في مطلع الخمسينيات، ونال شرف تقلد شارة (الكابتنية) فى عدد كبير من المباريات.

أحرز أول هدف للسودان فى تاريخ بطولات الأمم الأفريقية، حيث جاء الهدف في شباك المنتحب المصري، لكن اللافت في سيرة الرجل أنه بجانب هذه البراعة الأدائية في ممارسة كرة القدم، كان من أشهر معلمى مادة اللغة الإنجليزية فى المدارس المتوسطة والثانوية في مدينة أم درمان، مما جعله متفردا في كل المجالات، ولم يكن لاعبا للكرة فقط، وهذا يعطي الرجل بعدا أكاديميا رحبا لسيرة الرجل ومسيرته الرياضية والتعليمية.

رحم الله الراحل برعى أحمد البشير محمد دولة (القانون) وجعل مستقره الجنة مع الصديقين والشهداء.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
………………….. صلاح محمد عبد الدائم (شكوكو)
[email]shococo@hotmail.com[/email]