تحقيقات وتقارير

بعد زيارة سلفاكير إلى الخرطوم …. عودة الثقة لقطاع النفط

[JUSTIFY]تعتبر الزيارة التي قام بها رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت ، على رأس وفد عالي المستوى، إلى الخرطوم الأسبوع الماضي ، إختراق إيجابي على صعيد إعادة بناء الثقة بين البلدين ، وكانت السنتان اللتين أعقبت إعلان دول جنوب السودان والإنفصال عن السودان ، في التاسع من يوليو 2011م قد حفلتا بالتطورات التي أدت الى تباعد مواقف الطرفين، واتسمت تلكم السنوات بالحروب والتوترات وإنعدام الثقة ، بسبب عدم تطبيق الإتفاقيات والتفاهمات التي توصل إليها البلدان ، لاسيما إتفاقية التعاون المشترك الموقعة في 27 سبتمبر 2012م ، برعاية اللجنة الإفريقية رفيعة المستوى ، والتي يقودها ثامبيو أمبيكى ..وكذلك المصفوفة اللاحقة لإتفاقية التعاون، والتى حوت جداول زمنية واضحة وواجهت أيضاً المصاعب.
وكانت التوترات الأمنية التى ما فتئت تنشب وتعكّر صفو علاقات، طوال الفترة الماضية، بسبب إيواء دولة جنوب السودان للحركات المتمردة في السودان ، وتقديم الدعم اللوجستى لها ، وحدت تلك الممارسات العدائية من إمكانية تحسن العلاقات بين الخرطوم وجوبا ، لجهة إصرار الأولى ، على أن يكون الأمن عبر الحدود أولاً وقبل ، والتي تبلغ حوالي ألفي كيلو متر ، والإصرار كذلك من الخرطوم- على أن يكون التطبيق المتزامن للإتفاقيات ، هو المدخل الصحيح لتطبيع العلاقات بين البلدين.
عرقلة الإتفاقيات
وتضافرت عدة عوامل جعلت من الصعب تطبق أي إتفاق يتم التوصل إليه مع السودان منها: الصلات الوثيقة التي تربط بين البلدين من النواحي الجغرافية والطبيعية والإقتصادية والمعيشية ، فضلاً عن الإستراتيجية ، وهي عوامل تفرض نفسها أمام أي صانع قرار في الدولة الوليدة ، وهذه الحقائق التي حاولت بعض الدوائر النافذة في جنوب السودان إستغلالها بطريقة تخدم أجندتها ، والتي بالضرورة تتناقض مع مصالح شعبى البلدين وتلحق بالغ الأضرار بها.
ثانياً: إنكشاف دولة جنوب السودان أمام دول الجوار ، لجهة ضعف الإمكانيات والقدرات الإقتصادية لديها ، على الرغم من ثراءها بالموارد الطبيعية ،خاصة النفط ..وبحسابات المصالح البسيطة ، فإن العلاقات الجيدة مع السودان هى أفضل سبل لخدمة تلك المصالح، ولكن رغماً عن ذلك ، جرى البعض في جنوب السودان وراء رهاناتهم على إيجاد علاقات بديلة ، خاصة مع دول شرق أفريقيا على الرغم من التكلفة العالية لتلك العلاقات خاصة في الشق الإقتصادي، على دولة جنوب السودان.
ثالثاً: هناك العامل الإقليمي والدولي في تشابكاته مع رهانات إستراتيجية ميدانها السودان ، حيث توجد أطراف ودول إقليمية لديها مصلحة حقيقية في إحداث توتر علاقات السودان وجنوب السودان لاعتبارين اثنين :أولهما أنه بتأزم علاقات جوبا والخرطوم يكون الباب موارباً أمام تلك الأطراف لتعظيم مصالحها وأجندتها الاقتصادية ، وهذه مواقف دول مثل يوغندا وكينيا ، اللتين تريان فى جنوب السودان سوقاً ومورداً يمكن أن يخدم اقتصاديهما ؛ وثانيهما: استثمار تلك الدولة في نسج علاقات وثيقة مع جنوب السودان حتى قبل انفصاله عن السودان، ولن تقبل بسهولة التفريط فى ذاك الإستثمار التاريخى لكليهما.
وهناك فى العوامل الخارجية المؤثرة فى أضابير دولة جنوب السودان فى علاقاتها مع السودان، الأطراف الدولية ، مثل الولايات المتحدة ومجموعات الضغط الأمريكية ، والتي تتمتع بصلات وثيقة مع نافذتين في دولة جنوب السودان خاصة في أوساط الحركة الشعبية الحزب الحاكم والجيش الشعبي وتتغلغل تلك اللوبيات في مفاصل الدولة الوليدة ، مما أتاح لها فرصة التأثير في توجهات السياسة الخارجية لجنوب السودان ، خاصة في العلاقة مع السودان وتتمتع المنظمات الغربية بـ(فيتو) أوبالكاد.
رابعاً: الحسابات السياسية الخاطئة التي تواطأت عليها أطراف دولية وإقليمية ومحلية ، والتي أثبتت على أن جنوب السودان بعد الانفصال سيكون بالنسبة إليهم بمثابة منصة تطبيق مراحل أخرى من إستراتيجياتهم في السودان ، من خلال التركيز فى هذه المرحلة على مفهوم (الجنوب الجديد) ،وما أُطلق عليها إستراتيجية الحل الشامل لقضايا السودان ، بالسعى لتوحيد حركات التمرد في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان وشن حرب استنزاف ضد السودان إنطلاقاً من جنوب السودان.
على أن الخطة التي قامت على إعتقاد مفاده أن انفصال جنوب السودان وفقدان السودان لـ75% من إيرادات موازنته ، فإن ذلك سيخلق طرقاً مواتية لإسقاط النظام ، سواء كان ذلك عبر العمل المسلح أو ثورة شعبية ، على غرار ثورات الربيع العربي وجرى الحديث عن (ربيع سوداني)، لم يحالفها الحظ.
الأمن المتبادل
وكان الطبيعي في ظل تلك التعقيدات أن تتراجع علاقات السودان وجنوب السودان .. وكان النفط والأمن أكثر الجوانب حساسية لكلا البلدين، لارتباطهما الوثيق ، ومن دون ضمان الأمن على الحدود وانتفاء المهددات الأمنية من الصعب عليها ضمان انسياب النفط بشكل طبيعي أو أن ضمان عائدات في صالح شعبي البلدين ، بدلاً من تغذية الحرب بينهما.
وكان إنتاج السودان قبل الانفصال يصل إلى حوالي (500) ألف برميل يومياً ، وتقلص إنتاج السودان بعد الانفصال ليصبح حوالي (15) ألف برميل يومياً ، فيما إنتاج جنوب السودان (300) ألف برميل يومياً ، وتعتمد دولة جنوب السودان بنسبة 98% في ميزانيتها العامة.
وكانت جوبا قد اتخذت في يناير 2012 قراراً بإيقاف تصدير النفط عبر السودان ، وترتبت على تلك الخطوة تداعيات قاسية ، ووضعت جنوب السودان على شفير الكارثة الاقتصادية ، وتعالت تحذيرات المانحين الدوليين من خطورة الاستمرار في فقدان عائدات النفط ، حيث دعوا إلى تحسين العلاقات مع السودان ، لضمان تحسن الأوضاع المعيشية في جنوب السودان . وعلى الرغم من تداعيات قرار جوبا ايقاف ضخ النفط عبر السودان، إلا أن الأخير قد تجاوز الصدمة الناجمة عنه ،ـ عبر زيادة وتيرة الاستشكافات الجديدة ، وزيادة الإنتاج ، أو تطوير البدائل الاقتصادية الأخرى ، عبر ما عُرف بـ(الرنامج الثلاثي للإصلاح الاقتصادي) الذي وضعته وزارة المالية السودانية عقب الانفصال مباشرة.
خسائر البلدين
وكُشف مؤخراً ، وعقب زيارة سلفاكير إلى الخرطوم ،أن خسائر القطاع النفطي جراء تذبذب الضخ بلغت حوالي (20) مليار في كلا البلدين (11 مليار للجنوب و5 مليار للسودان) ، وتشمل تلك الخسائر -بجانب البلدين- خسائر الشركات النفطية العاملة فيهما (حوالي 4 مليارات).
وعلى صعيد التداعيات الايجابية لزيارة وفد جنوب السودان إلى الخرطوم ، فقد شهدت أسعار العملات في الخرطوم انخفاظاً ملحوظاً ، حسب إفادات العاملين والمتابعين لحركة الأسعار ، والتي ارتبطت بوتيرة العلاقات السياسية بين البلدين صعوداً وهبوطاً ، وهذا على الرغم من أن السودان لم يُضمّن عائدات نفط جنوب السودان موازنته الحالية ، ولكن السياسات الصارمة التي اتخذها بنك السودان تجاه أسعار العملات والاستيراد ، ، ومحاولة التحكم في المضاربات ، والحد من تأثيراتها ، قد جعلت من الربط بين عائدات نفط الجنوب وسوق النقد الأجنبي أمراً متلازماً ، بسبب الهلع والشائعات أكثر من تذبذب عائدات النفط فى حقيقة الأمر.
في الجانب الآخر ، سارع مسؤولون في وزارة النفط بدولة جنوب السودان إلى إعلان اعتزامهم زيادة انتاجهم النفطي إلى 20 ألف برميل يومياً ، مع وجود استعدادات لديهم لزيادة الإنتاج إلى (25) ألف برميل يومياً بنهاية العام الجاري ، وذلك بعد اتفاق البلدين على إستمرار ضخ النفط ، والذي كان السودان قد حدد له ، السادس من الشهر الجاري لوقف تصديره، فى حال لم تلتزم دولة جنوب السودان .
صفحة جديدة
وخلال زيارة سلفاكير الأخيرة ، اتفق البلدان على فتح صفحة جديدة في علاقتهما ، حيث تم الاتفاق على الاستمرار في الحوار ، وصولاً لحل كافة القضايا العالقة بينهما.
وقال الرئيس عمر البشير على هامش لقاءه برئيس دولة جنوب السودان « تمكنا من إزالة كل العقبات التي تواجه العلاقة بين البلدين ، وذلك بالالتزام الكامل بإنفاذ كل اتفاقيات التعاون بصورة متكاملة ، والانطلاق بها إلى آفاق أرحب وتطويرها في كافة المجالات».
من جانبه ، قال سلفاكير رئيس دولة جنوب السودان أنه جاء إلى الخرطوم «بنوايا طيبة للبحث عن حلول للقضايا العالقة مع السودان» وشدد على طي صفحة الماضي بتنفذ ما اتفق عليه الطرفان في مصفوفة التعاون التي وقعا عليها العام الماضي في أديس أبابا ، وتعهد بعدم إيواء أو دعم الحركات المتمردة ، والتي يطالب السودان بقطع جوبا لصلاتها بها ، كشرط لتنفيذ الاتفاقيات كحزمة واحدة.
وأعتبرت بنود اتفاقية التعاون المشترك الموقعة بين السودان وجنوب السودان في 27 سبتمبر الماضي ، قمة رئيسي البلدين أعلى سقف يمكن أن يحال إليه أية خلافات قد تواجه اللجان المشتركة بينهما ، على أن زيارة رئيس دولة جنوب السودان ولقاءه بالرئيس البشير، وما تم من تفاهمات بينهما، قد أعادت الدفء إلى علاقات البلدين ، حيث عهدا الرئيسان إلى اللجان المشتركة العليا بمتابعة مخرجات القمة وتنفيذ كافة الاتفاقيات الموقعة بينهما.
تغييرات جذرية
ويبدو أن التغييرات الجذرية التي طرأت على كواليس صناعة القرار في دولة جنوب السودان ، والتي أدت إلى إزاحة عدد من الرموز والشخصيات المدنية والعسكرية ، والتي يعرف عنها عدم الرضا على تحسين العلاقات مع السودان ، قد لعبت دوراً في تشجيع سلفاكير على النظر في مصالح شعبه أولاً، قبل الانخراط في مجاراة المصالح الاقليمية والدولية ، وهناك عامل آخر ربما دفع بقادة جنوب السودان إلى الخروج من حالة اللا حسم والتردد مع السودان، وهو الأزمة الصامتة بين يوغندا وجنوب السودان ، بحسب تقارير إعلامية، والتي تجسدت في حالات الاعتداء ضد رعايا الدولتين ، ويُشار إلى أن اليوغنديين يسيطرون على مفاصل حيوية من الاقتصاد بجنوب السودان ، مما يؤدي إلى امتصاص فوائض التجارة والوظائف ، وفي قطاعات أخرى ، على حساب المواطنين الجنوبيين ، وهو لا يمكن أن يحدث حتى في حال بلوغ علاقات السودان وجنوب السودان مرحلة الذروة، من حيث التكامل والإستقرار.

صحيفة الوطن

[/JUSTIFY]