تحقيقات وتقارير

مجموعات وافدة.. أم تخطيط فاشل؟

[JUSTIFY]عندما ضربت موجة الجفاف والتصحر شمال كردفان، اضطر الكثيرون إلى النزوح هرباً من شبح الموت جوعاً. ومِنْ هؤلاء مَنْ توجه نحو أطراف العاصمة المثلثة وحط الرحال بمنطقة المويلح في ظروف إنسانية يرثى لها من كل النواحي. وضمن هؤلاء، كانت فاطمة بت الشريف، وهي امرأة شاعرة، سريعة البديهة، ذكية لا تفوت عليها شاردة ولا واردة، أجبرتها تلك الظروف في مطلع ثمانينيات القرن الماضي على النزوح من مراتع صباها في بوادي شمال كردفان وقراها، ناحية الكوكيتي والجمامة ورهد الدبيب والغبش وأبو رقّاشة، لتجد نفسها تعيش على هامش الحياة في غرب أم درمان، وهي التي كانت تردد بصوتها المديد مع صاحباتها من نساء «الفريق» في عز الخريف عندما يتوسط القمر كبد السماء:
بيت القش ما بضاري ٭٭٭ ساكت بَشْتَن حالي
وكأنها بذلك تعيد صدى ميسون الكلابية وهي تقول:
لَبيتٌ تخفق الأرواحُ فيه ٭٭٭ أحب إلي من قصرٍ منيفِ
فاطمة بت الشريف، امرأة عزيزة النفس لم تذق طعم الذل إلا في تلك الظروف القاهرة، فأبوها رجل عالم قدم إلى السودان من بلاد شنقيط في عشرينيات القرن الماضي، في طريقه إلى أداء مناسك الحج وزيارة الحبيب المصطفى في المدينة، وكان له ما أراد بفضل الله وتوفيقه، فوصل حتى بيت المقدس، قبل أن تدنسه أقدام اليهود والصهاينة، ثم قفل راجعاً إلى السودان وطاب له المقام في شمال كردفان، وتزوج من بنت عمه الشريف محمد عمر، ذلكم العلامة الفذ، من علماء الشناقيط الذين نشروا العلم، خاصة المذهب المالكي في غرب السودان، وكان لهم إسهام مشهود في إثراء الحراك الثقافي في مجالات الفقه واللغة والشعر ونحو ذلك من الفنون والمعارف التي يجيدونها.

امرأة هذا أصلها وتاريخ أسلافها، على الرغم مما حل بها من كوارث طبيعية، ينبغي لنا أن نتعامل مع أمثالها بما يليق من تقدير واحترام، حسب المثل السوداني الذي يقول «أكرم شبشة عشان الشيخ برير». المهم في الأمر، وما يعنينا في هذا المقام، أن بت الشريف، كما يحلو لأهل المنطقة أن ينادونها، قد وجدت نفسها مع كثيرين غيرها، في ظروف وأوضاع مزرية في أطراف العاصمة المثلثة، في منطقة المويلح غرب أم درمان. ومهما يكن الأمر، فهؤلاء أشخاص سودانيون يكفل لهم الدستور حق الإقامة في أية منطقة من أرض الوطن الذي كان شاسعاً، ولا يجوز أن نطلق عليهم عبارات مستفزة مثل «مجموعات وافدة» أو غيرها من الألفاظ التي تحمل دلالات توغر الصدور وتثير النعرات. ولعلنا نطرح سؤالاً هنا: هل الذين يقيمون في شرق النيل ومحلية كرري وأمبدة أيضاً من «المجموعات الوافدة»؟
إن الخرطوم وما جاورها ليست حكراً على مجموعة دون غيرها من المواطنين، وكان الأحرى بالذين ينحون باللائمة على «الوافدين» أن يضعوا خططاً قابلة للتنفيذ لتفادي الكوارث التي حلت بالعاصمة والمناطق المجاورة لها، من فيضانات وسيول التي دمرت المنازل والمدارس والمرافق الصحية والحيوية الأخرى، وأزهقت الأرواح، وأهلكت الحرث والضرع نتيجة لسوء التخطيط العمراني، وربما الطمع في ملء الجيوب الكبيرة من أموال الأراضي بدون وجه مشروع أو مراعاة لمصلحة المواطن والمصلحة العامة!
وتقدمت فاطمة بت الشريف بطلب للحصول على قطعة أرض ضمن الخطة الإسكانية، في غرب أم درمان، فكان نصيبها منزلاً لا تتجاوز مساحته ثلاثمائة متر مربع في منطقة لم تكن بها خدمات، تعوي فيها الذئاب، وتنبح الكلاب الضالة ليلاً، وتنتشر العقارب والثعابين السامة، فما كان منها إلا أن جادت قريحتها بقولها المشهور من فن الجراري:

ودّونا في بوضلوع ٭٭٭ وقالولنا دي المربوع
ولمن لا يعرفه، فإن «قوز أبو ضلوع» هو ذلك الكثيب أو التل الرملي الذي يقع غرب أم درمان، وتقشعر منه أبدان سائقي اللواري المتجهة إلى غرب السودان ودنقلا، طبعاً قبل إنشاء طريق شريان الشمال، الذي سهّل السفر كثيراً على أهالي الولاية الشمالية، بينما لا يزال أهل كردفان والغرب عموماً ينادون بتحقيق حلمهم الأكبر، أعني إنشاء طريق أم درمان ــ جبرة ــ بارا، لتفادي تلك العقبة الكؤود. وعموماً، فاطمة بت الشريف لم يطب لها العيش في تلك المنطقة، فحزمت أمتعتها وعادت إلى ديارها غير آسفة على ما يعتقد بعض الناس أنه مدنية وحضارة، لأن الكرامة لا تقدر أو تستبدل بثمن. كما أن الإنسان البدوي، بطبيعة الحال، لا تروق له حياة المدن وبريقها وزيفها، حسبما تشير إلى ذلك الأبيات التي في صدر هذا المقال. إن السبب في هذه الكوارث، يا حضرات السادة، بإجماع المختصين في تخطيط المدن والمسؤولين الذين تحدثوا لوسائل الإعلام، هو سوء التخطيط العمراني وغياب المتابعة من السلطات البلدية التي من واجبها تنظيف مجاري السيول والصرف الصحي قبل الخريف، خاصة وقد ذكرت مصلحة الإرصاد قبل وقت كافٍ أن معدل الأمطار هذا العام سيكون فوق العادة! ومع ذلك يأتي من يقول إن المجموعات الوافدة هي السبب! فعجباً لمثل هذا الكلام غير الموفق من شخص مسؤول، وكأن مَنْ يتحدث عنهم قد جاءوا من بلاد الواق واق. فهل يا ترى فكرت الدولة في توفير الخدمات الضرورية أو إنشاء مشروعات تنموية في المناطق التي تأثرت بالجفاف وأدت إلى نزوح «المجموعات الوافدة» حتى يحصل المواطن على فرصة عمل ويضمن قوته ويكون لديه الحافز على الاستقرار، مهما تبدلت الظروف المناخية، أو حلت به الكوارث؟ هذه مشكلة تحتاج لتكاتف جهود كثيرة وعصف ذهني من قبل الجهات المعنية ومنظمات المجتمع المدني، لوضع حلول ناجعة من بينها التنمية المستدامة، وإلا ستضطر فاطمة بت الشريف وغيرها من سكان الأقاليم لترك ديارهم مرة أخرى والتوجه نحو المجهول، لا سمح الله![/JUSTIFY]

صحيفة الإنتباهة