الوجه الآخر لولاية لبحر الأحمر..!!
** ما يميز موسى عن الآخرين ليس عربته الصغيرة والمسماة – شعبيا – بالدباب، ولا بضاعته ذات الألوان الجذابة والتي قوامها الهدايا وألعاب الأطفال.. بل لموسى هذا ابتسامة مشرقة لا تفارق وجهه الصبوح، وكأنه يريد أن يقول للناس والحياة (إني أتحدى الإعاقة).. يجلس موسى على مؤخرة عربته الصغيرة واضعا على منضدة بمنتصفها تلك الهدايا والألعاب، بحيث العربة هي (المتجر السيار).. يستقبل الأسر وأطفالها بابتسامة ويودعهم ببشاشة، وما بين هذا وتلك فاصل من الأنس اللطيف مع الأطفال وأولياء أمورهم إلى أن يغادرونه وعلامات الرضا والسعادة تتبع خطاهم..فنجان القهوة الذي تناولته على بعد أمتار من عربة موسى ساهم في رصد هذا المشهد الأنيق، وعندما دعوته (يا حبيبنا تعزمني شاي ولا أعزمك قهوة؟)، رد ضاحكا: (ياخ كتر خيرك والله، أنا البعزمك)، ثم أردف صائحا (يا قدورة عليك الله واحد شاي للأخ ده، وما تحاسبوا).. وكان هذا الشاي مدخلا لأكتشف الكثير..!!
** موسى يؤانس مغتربا عاد صباح اليوم إلى وطنه بعد غياب، أو هكذا عرفت نفسي منعا للتوجس وحبا في التلقائية، فالصحافة دائما تباعد بيننا وبين تلقائية كهذه: (أنا معاق منذ الطفولة، ربما لم يطعموني ضد شلل الأطفال وربما هناك أسباب أخرى، فالأمر قضاء وقدر ولم تسمح الظروف لأبي وأمي بعلاجي ومعرفة سبب إعاقتي.. إعاقتي حرمتني من الحياة التي أحبها، فأنا أحب أن أكون بين الناس، مشاركا أهلي وجيراني ومعارفي في أفراحهم وأحزانهم، ولكن إعاقتي حالت دون ذلك، بحيث كنت أسمع أخبار أهلي وأصدقائي وعن مناسباتهم وأحزن لأن خروجي من المنزل كان يرهق أبي وأمي كثيرا، إذ لم يكن باستطاعتهما تحمل قيمة إيجار الركشة والأمجاد كل يوم..ولذلك ظلت غرفتي رفيقتي الوحيدة – وكذلك جهاز موبايل – طوال سنوات صباي وإلى أن أكرمني الله بهذه العربة التي أعادت لي الحياة التي كنت أفتقدها..!!
** و..يتوقف موسى قليلا، ليبيع بالونا وبعض الأشياء لأسرة زائرة لهذا المكان، ويواصل: أتجول بهذه العربة نهارا في كل أحياء المحلية مشاركا أهلي وأصدقائي في مناسباتهم، وكذلك هي متجري بحيث أحمل عليها بضاعتي وأبحث عن الرزق الحلال في الكورنيش والأندية والسوق.. (والله لو ما العربية دي أنا لامن أموت ما كنت بعرف البلد دي شكلها كيف؟)، كتبتها كما نطق.. ثم يواصل: الحمد لله، لم أعد بحاجة إلى أحد، بل أساهم مع أبي في دفع فواتير الكهرباء والمياه ومصاريف تعليم أختي الصغيرة..ويضحك موسى حين أساله عن دخله في فترة مهرجان السياحة وليلة رأس السنة، ويخرج أوراقا مالية من جيبه ويقبلها ثم يبتسم قائلا (الحمد لله، الخير راقد والرزق كتير والله يقدرني على شكره..ما بوريك دخلت كم، لكن عشان خاطر الملح والملاح البينا ده – يشير إلى كوب الشاي – قبل شهرين عملت رأسمال حقي وبقيت ما بجيب بضاعة بالدين.. ولو الأمور مشت كدة الشاف السنة الجاية الحاج والحاجة في عرفات ما كضب).. قالها هكذا، فشكرته على الشاي والأنس اللطيف، وغادرته..!!
** كما أعادت تلك العربة لموسى حياته التي يحبها، هناك ثلاثمائة عربة أخرى شرعت في إعادة حياة معاقين آخرين أمثال موسى، بكل أرجاء ولاية البحر الأحمر.. حين ترى بعضهم على الشواطئ وسوح المدينة وشوارعها الأنيقة، مشهدهم يفرح قلبك ويسر عينيك، بحيث يمارسون حياتهم – بيعا وشراء وسياحة وتجوالا – على طبيعتها، وبكل يسر..
إن عربة موسى التي رصدتها لم تكن إلا بداية الطريق الذي أوصلني إلى لجنة المعاقين التي شكلت بقرار ولائي، ليرأسها مواطن اسمه آدم الحمري، لا يمت إلى هياكل الدولة الوظيفية بأي صلة، ولكنه – ومعه آخرون – يعيدون لهذه الفئة حياتها التي كانت مفقودة، بحيث تكون فئة ذات عطاء، وذلك بتمليكهم تلك العربات..!!
** هم لا يمتلكون تلك العربات فحسب، بل ملتزمةٌ المركبات الخاصة بتخصيص مقعدين لهم مجانا، وكذلك ملتزمة كل مكاتب البصات السفرية التى بولايتهم بتخصيص مقعد للمعاق مجانا أيضا..ولهم أيضا في إستاد المدينة وإستادات أنديتها أمكنة تم إعدادها بحيث تسعهم وتسع عرباتهم تلك..عدد المعاقين بالولاية (2501)، منهم من امتلك تلك العربة، وعددهم (300)، ومنهم من يتأهب للاستلام في مقبل الأيام، بحيث السماء لا تزال تمطر خيرا لهذه الفئة بفضل الله ثم بجهد مشترك ما بين حكومة ولاية البحر الأحمر ومجتمع الولاية..وهكذا يشمل التغيير نحو الأفضل كل أوجه الحياة في ولاية البحر الأحمر، وسواسية الناس وحكومتهم في تطوير ولايتهم وتنمية إنسانها..وإن كان مهرجان السياحة هو الوجه المطل على الإعلام، فإن هناك ما خفي على الإعلام، وكلها وجوه مشرقة تضيء بها كل محاور الحياة، وليس محور السياحة فقط.. وما وجه موسى ورفاقه – بكامل حيويتهم وابتساماتهم ومعنوياتهم – إلا نموذج من نماذج الحياة الجديدة التي تشرق هناك بـ (الأمل) ..!!
تصويب:
*بزاوية أول البارحة والتي تساءلت فيها عن عائد صادر المواشي، قدرت بأن حجم عائد 30 مليون رأس في حال أن يكون العائد 100 دولار فقط في الراس بـ(3 مليار دولار) بيد أن الصحيح الذي لم يفت على فطنة القارئ هو (300 مليون دولار).. وعذرا للقارئ وشكرا لكل من اتصل منبها ومصوبا.[/JUSTIFY]
إليكم – السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]