هنادي محمد عبد المجيد

كلمات في معنى (الحُبْ)‏

كلمات في معنى (الحُبْ)‏
الشهوة تكشف لك عن نوعك ، عن ذكورتك ، أو أنوثتك ،، والحب يكشف لك عن نفسك ، عن ذاتك ،، والملل من الإثنين هو الإشعار الخفي الذي يأخذ بيدك إلى محبوبك الحقيقي ،، (أحبك) كلمة لذيذة تصيبنا بالخدر والدوار ،، كل شيء فينا يذوب ويتفتت حتى اللغة نفسها تذوب والزمن يذوب والمكان يذوب والعقل يذوب ،، ونحن ننطقها ،، اللغة تتعطل في لحظة الحب ويحل محلها سكوت ناطق مُعبِّر ،، والزمان والمكان يتلاشيان في غيبوبة صاحية تكف فيها اللحظات عن التداعي وتنصهر في إحساس عميق بالنشوة والنصر والفرح ،، قد تكون هذه النشوة لحظة واحدة ،ولكن هذه اللحظة تصبح كالأبد ، الحب يؤبدها فتستمر ماثلة أمام الشعور ،تستمر في المستقبل لسنوات طويلة تلاحق صاحبها وقد ألقت ظلا طويلا على حياته ،وامتزجت بصحوه ونومه وأحلامه وهذيانه ،والتصقت به من داخله ،فأصبح من المستحيل عليه أن ينفضها مع ثرثرة كل يوم ومشاغله وتفاهاته ،، أصبحت بعض نفسه ،، تحيا بحياته ،، وتموت بمماته ،، في لحظة الحب ينفتح شيء فينا ،ليس الجسد ، بل ما هو أكثر ،، بوابة الواقع كلها تنفتح على مصراعيها ،فتتلامس الحقائق والمعاني الجميلة والمشاعر التي يحتوي عليها الحبيبان ،ويحدث الإنسجام من هذا الإلتماس بين الأفكار والمعاني والأحاسيس الرقيقة ،، ويخيل للإثنين في لحظة أنهما واحد ،، ويسقط آخر قناع من أقنعة الواقع ، فتذوب الأنانية التي تفصلهما ،ويصبحان مصلحة واحدة وفكرة واحدة ،، ولكنها لحظة خاطفة لأن الواقع الصفيق ينسدل من جديد بين الحبيبين ،، فتعود الهموم التي تعزلهما الواحد عن الآخر ،، الإلتزامات والواجبات ،، إننا لا نعيش وحدنا ،بل هناك الآخرون ،وكلهم ينازعون حريتنا ولقمتنا وحياتنا ،، وفي هذا الزحام نضيع ويطمس الواقع على أحلامنا ويأخذنا معه في دوامة من التكرار السخيف من الأكل والشرب والنوم ،، لا نفيق منها إلا لنغيب فيها من جديد وتمضي حياتنا في روتين ممل لا نلتقي فيه بأنفسنا أبدا ،ولا نذوق الحب ولا نعرفه ،، وقد نتزوج ونعيش حياة بليدة هادئة ،، نلتقي فيها بزوجاتنا كما نلتقي بدفاتر الحضور في الديوان ،نوقع عليها كل ليلة لنثبت حضورنا في الميعاد ،ونعيش حياتنا الجنسية بدون وجدان ،، وتظل الزوجة في نظرنا مجرد أنثى لقضاء الحاجة ،، يمكن أن تحل محلها الخادمة أو أية امرأة بدون أن نحس بأن شيئا ما ناقص أو مفقود ،، إن الشهوة شيء غير الحب ،، إنها أقل من الحب بكثير ،فهي رغبة النوع وليست رغبة الفرد ،، إنها علاقة بين طبيعتين وليست علاقة بين شخصين ،، علاقة بين الذكورة والأنوثة ،، والفرد لا يكشف فيها عن نفسه ولكنه يكشف نوعه وذكورته ،، والحب يحتوي على الشهوة لكن الشهوة لا تحتوي عليه ،، بالحب لا تكشف فقط أنك ذكر ،ولكنك تكشف أيضا أنك فلان وأنك اخترت فلانة بالذات ولا يمكن أن تستبدلها بأخرى ،، إن كلمة ( أُحِبُّكَ) هي أعمق وأجمل كلمة في حياة الرجل لأنها ليست مجرد كلمة وإنما هي نافذة يطل منها على حقيقته وسره ،، والحياة الخالية من الحب حياة باردة موحشة سخيفة خالية من الحماس والطعم والبهجة ،تنساب فيها الرغبات ميتة من الملل والضجر والفراغ ،، الحياة بلا حب غربة ،،
والشهوة لا تسعفنا ولا تطفئ عطشنا ولا تعوِّضنا عن الحب ،، إنها وسيلة للهروب فقط نبدد بها نشاطنا ونتخلص منه ،، إنها مثل الخمر والقمار والمخدرات ، وسيلة للإغماء والإعياء والبلادة ،، والشيء الوحيد الذي يستطيع أن يحل محل الحب هو الفن ،، لأنه ينفذ إلى القلب مثله ،ويكشف مثله عن ذاتنا العميقة ويوصلنا إلى اللحظات الأبدية المليئة ،،ويطلعنا على كنوزنا وأسرارنا ،، وما يبدعه الإنسان من فنون خالدة يدل على أنه يحتوي على بذرة الخلود في داخله ،،وما يعيشه من لحظات أبدية يدل على أنه يحتوي على الأبدية في قلبه ،، والحب الذي هو أعمق من كل حب لا يفجره في القلب إلا التصوف والشعور الديني ،، لأن الدين هو الذي يعيد الإنسان إلى النبع الذي صدر منه ويأخذ الإنسان الساقط في الزمان والمكان ليرفعه إلى سماوات الأبدية ولا يرفعه إلى هذه السماوات إلا الحب ،، منتهى الحب الذي يفنى به العابد عن نفسه وعن الدنيا شوقاً إلى خالقه ،، وما حب الإنسان للمرأة ، وما حب الإنسان للفن ،وما حب الإنسان للجمال ،إلا خطوات الدليل الخفي الذي يقودنا إلى الله ،، إلى المحبوب الوحيد الذي يستحق الحب ،، إنها محطات سفر إلى المحطة النهائية ،محطة الوصول ،، مرة بعد مرة يكتشف الإنسان أن موضوعات حبه لا تملك وجودا حقيقيا ، فالوردة تذبل والشمس تغرب ،والمرأة تشيخ والجديد في الفن يبلى ،، وما رآه في المرآة جمالاً يكشف أنها لا تملكه وأنه يزايلها بالشيخوخة ،، إنه لم يكن جمالها ،لقد كان وديعة أودعت عندها ثم استردها صاحبها ،، وتبرد الشهوة ،، وتفتر العاطفة ،،ويتجه الرجل بحبه إلى امرأة أخرى لتتجدد الخيبة ويتجدد الملل ويتجدد الضجر ،، لا ،، إن حبه أكبر من أن تستوعبه ذراعان ،، إن حبه يَعْبُر به الغايات المحدودة ويتجاوزها إلى قيم الفن والجمال والخير والعدالة والحقيقة ،، وهو على عتبة هذه المجردات يكتشف أنه يريد الله بكل حبه ،فهو الواحد الذي تتجسد فيه كل هذه القيم اللانهائية ،، هو اللامحدود في مقابل المحدود ،، هاهو أخيرا يجد الجواب عن السؤال اللغز الذي طالما حيره ، لماذا خلقت ،لماذا وجدت في هذه الدنيا ؟ هو الآن يعرف لماذا خُلِقْ ،، ليصل إلى حقيقة نفسه ،ويدرك إلاهه ،، وما أرض الواقع إلا المزرعة التي يلقى فيها بإمكانياته لتورق ولتثمر وتتحقق ،،تلك الإمكانيات الباطنة فيها بطون جنين القمح في بذرة القمح ،، وهو يرى نفسه كإرادة هائلة تتخبط في سروال ضيق من الجلد واللحم لا يسمح له إلا بالسير البطيء خطوة خطوة والحياة بالقسط لحظة بلحظة ،،وفي كل خطوة من خطواته وفي كل لحظة من لحظاته يترك بأعماله أثرا يدل عليه ،، وهو كل يوم يملأ ورقة الإمتحان ويجيب عن الأسئلة الألية : من أنت ؟ ماذا تريد أن تقول ؟ ماذا تريد أن تفعل ؟ماذا تخفي في قلبك ؟ ليكشف عن مكنونه ويحقق ذاته ويقوده حبه لنفسه وحبه للمرأة وحبه للجاه والسلطان إلى يأس بعد يأس، وملل بعد ملل، وإحباط بعد إحباط ،حتى يشرق فيه حب الحق ليدله على الطريق إلى الواحد الأحد الذي تجتمع فيه كل الكمالات ،، ويزداد حُبَّهُ عمقاً ليصبح عبادة وصلاة ،وهو يصعد في طريق العودة إلى منبع الأنوار ،، وهو الآن يشعر بأنه وجد نفسه حقاً وعرف إلاهه وعرف هدفه وعرف طريقه ،، وهو يدرك أن كل ما عاناه من عذاب وألم وإحباط ويأس يذهب عبثاً ،، فقد كانت كل تلك الآلام هي المؤشرات التي كشفت له طريقه ودلته على حقيقته ،كانت بوصلته ودليله في بحر الظلمات ،،
،من أجل هذا خلق الله الحياة ،، إن الإنسان معجزة المتناقضات ،، إنه فان ويحتوي على خالٍ ،، وميِّت ويشتمل على حي ،،عبد ويشتمل على قلب حر ، وزمني ويحتوي على الأبدية ،،وحبه وفنه وتفكيره وصحته ومرضه وجسده وتشريحه تدل كلها على هذا التركيب المتناقض ،، الدنيا كلها تقيده وجسده يقيده مثل جاكيتة الجبس ،ومع ذلك لا تمنعه هذه القيود من أن يُضمر في نفسه شيئاً ،وأن يفرض هذا الشيء على ظروفه ،، فهو يصهر الحديد ويسوي الجبال بالأرض ويشق الأنفاق ويطلق قذيفة من عدة أطنان إلى القمر ،كل هذا وهو جسم صغير هلامي من اللحم والدم ،، وهو يرقد مريضاً مشلولاً يائساً ،فإذا اجتمع بزوجته أنجب طفلاً يرقص من الصحة والعافية ،، أين كانت هذه الصحة مختفية في المرض ؟ وهو يبدو ضعيفا قليل الحيلة ،تقتله رصاصة بمليم تماما مثل الرصاصة التي تقتل الكلب ، ولكنه مع هذا يستطيع أن يطلق من فمه قبل أن يموت صيحة يهدم بها نظاما بأسره ،، من أين يخرج صوته ،، وينساب تفكيره وينصب شعوره وتتدفق قواه غير المحدودة ،، إن أعضاءه تبدو في التشريح من مادة تقبل الوزن والقياس وتخضع للزمن ، ولكن شعوره يكشف عن مادة أخرى وزمن آخر يعيش فيه غير زمن الساعات والدقائق ،، زمن حر يقصر ويطول حسب إرادته ،هو الزمن الوجودي وتعمق هذا الشعور في لحظات الحب والإلهام والتصوف يكشف عن حقيقة أغرب ،، إن هناك أفقا ثالثا داخله ،أفقا غير زمني ،لحظات أبدية مليئة لا تنقضي مثل اللحظات ،وإنما تظل شاخصة في الشعور مالئة للوجدان ،،ماذا تكون تلك اللحظات ؟ أتكون هي الثقوب التي تطل على سره ،، وماذا يكون سره الخافي تحتها ؟ أهو الروح ؟ وما الروح ؟ إنها الحرية ،، الحرية جوهر الإنسان وروحه ،، ومن خلال محاولاتنا فهم الحرية سوف نقترب من فهم الروح .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]

تعليق واحد

  1. ذكرني كلامك بالشيخ الشهيد (أحمد ياسين) الذي كان مقيدا إلى كرسي ، لكنه ماذا فعل؟ أسس حركة تقف الآن شوكة في حلق الصهيونية العالمية ، وماقتلوه إلا من وراء جدر ، استشهد لكن تلاميذه سائرون