منوعات

استبصاراتُ فتاةِ الحاج يوسف .. الغامضة!!

[JUSTIFY]ذات ظهيرة تشوي مخَّ الضَّبِّ من صيف 1998م احتجت لقطع مشوار في بعض شأن ضروري من مكتبي بشارع الجُّمهوريَّة إلى مكتب صديقي كمال بخيت بالخرطوم شرق، حيث كان يرأس، وقتها، تحرير صحيفة «الرأي الآخر». غير أنني رحت أتلكأ، وأتباطأ، وأجرجر أقدامي، مستكثراً، من ناحية، إخراج سيَّارتي من موقفها الذي كنت حصلت عليه بما يشبه المعجزة في منطقتنا المزدحمة، ومستصعباً
من ناحية أخرى، العثور على سيَّارة أجرة خالية في مثل ذلك الوقت من اليوم. فجأة، أطلَّ صديقي عبد المنعم عثمان المحامي، وهو يلهث، ويلهوج، من فرجة باب المكتب، تحيَّة عجولاً، ويطلب أن أعيره مرجعاً قانونياً يحتاجه، ويعتذر عن عدم تمكنه من الدُّخول بأنه قد رَكَنَ سيَّارته في مكان غير مسموح به، ويخشى أن يخلق له ذلك مشكلة مع شرطي المرور! انتهزت الفرصة التي تهيَّأت لي بمحض الصُّدفة، ورجوته أن يقضي معي ذلك المشوار بسيَّارته، فوافق، ضاحكاً، لكنه اشترط، جرياً على عادة قديمة لديه، أن أتولى أنا القيادة!
في ذلك الزَّمان كانت سيارة عبد المنعم بيضاء، وكانت سيارتي صفراء. وفي مكتب كمال وجدنا، بين زوَّاره الكثر، ثلاثينيَّة ناحلة، شاحبة، رقيقة الحال، تكاد لا تلفت النظر أو تسترعي الانتباه. وما أن رآنا كمال حتى هبَّ يرحِّب بنا، هاشاً، كعادته، ثمَّ ما لبث أن أشار، فجأة، إلى الفتاة، وصاح مأخوذاً:
ــ «تصور يا كمال الأخت دي، قبل دقايق، قالت لي هسِّي حيجي داخل عليك واحد صاحبك ملتحي ولابس كذا وكذا ..»!
ثمَّ سرعان ما استدرك مخاطباً الفتاة:
ــ «لكين كمال عربيتو صفرا وانتي قلتي حيجي سايق عربيَّة بيضا»!
تبادلنا، عبد المنعم وشخصي، نظرات مدهوشة، التفتُّ بعدها إلى كمال قائلاً:
ــ «بس أنا فعلاً جيت سايق عربية بيضا .. عربيَّة منعم»!
حدَّق كمال في وجهي مليَّاً، قبل أن يرتمي على كرسيِّه مذهولاً، بينما الفتاة ساكنة تماماً، إلا من ابتسامة غامضة تكسو محياها!
بُرهة، أو بُرهتين، ثمَّ ما لبِثَتْ أن التفتت إليَّ قائلة في هدوء وثقة:
ــ «قميصك ده إنت اتردَّدتَّ مرتين تلاتة قبل ما تلبسو .. كنت لبست في الأول واحد تاني أسود .. بعدين خليتو ولبست ده .. صاح»؟!
مضيت أتذكر كيف تردَّدتُّ، بالفعل، صباح ذلك اليوم في اختيار ما أرتدي، خصوصاً وقد اتصلوا بي هاتفياً من المكتب ليخطروني بأن جلسة المحكمة التي كنت سأقصدها قد تأجَّلت! وأذهلني صدق وصفها الدقيق لذلك الحدث البسيط، فلكأنها كانت رابضة تتابع حركتي وسكوني من مكان ما في الغرفة التي لم يكن بها أحد سواي!
(2)أوضح لنا كمال، بعد أن استعاد شيئاً من تركيزه، أنها جاءت، أوَّل مرة، إلى مكاتب استقبال الصحيفة ذات ضحى قبل حوالي شهرين، وألحَّت، بما يشبه الهستيريا، في طلب مقابلته لأمر قالت إنه يتعلق بحياة أطفاله، فاستأذنوه وأدخلوها له. كانت تهذي، لاهثة، جاحظة العينين، مبحوحة الصوت، بكلام مفكك عن عقربة، وأنقاض، وفردة حذاء طفل، قبل أن تتوقف، فجأة، لتسأله:
ــ «انتو عندكم في ضهر بيتكم زي ممر مقفول كدا»؟!
تذكر كمال أعمال الصيانة التي كانت تجري، وقتها، في بيته بالثورة، والأنقاض في الموضع الذي أشارت إليه، وأدرك أنها إنما تحذره من خطر داهم يتهدَّد أطفاله!
بلا كثير تفكير ألفى نفسه ينقذف داخل سيارته، وينطلق إلى البيت. وما أن بلغه حتى اندفع يركض، كالممسوس، إلى الممر حيث أشارت الفتاة. ولدهشته كان أوَّل ما وقعت عليه عيناه .. فردة حذاء قديم لأحد أطفاله بين الأنقاض! أمسك بمجراف، وراح يقلب الحذاء بحذر. بغتة .. انفلتت من داخله عقربة سوداء ضخمة كادت تنحشر تحت الأكوام لولا أن عاجلها بضربة قويَّة من المجراف صرعتها في التو!
كان أكثر ما شغل كمالاً، عندما قفل عائداً، سؤال الفتاة، وقد وجدها جالسة تنتظره في هدوء، عن كيف ألمَّت بكلِّ تلك التفاصيل، بل كيف عرفته هو نفسه! وسرعان ما جاءه التفسير الصَّاعق في طوايا الابتسامة الغامضة:
ــ «شفت ده كلو الصباح وانا نايمة في بيتنا في الحاج يوسف، وعرفتك من صورتك الفي الجريدة»!

(3)مرَّت شهور، وأمست تلك الحكاية العجيبة محض ذكرى من بلاوي صديقي كمال التي لا تنقضي! وكنت نسيتها، تقريباً، حين رنَّ جرس الهاتف ذات نهار بمكتبي، وما أن رفعت السَّمَّاعة حتى جاءني صوته يلهث مفزوعاً:
ـ «أسمع .. أنبوبة الغاز بتاعتكم في البيت فيها مشكلة»؟!
ـ «أنبوبة شنو يا زول .. قول بسم الله»!
ـ «كمال أنا ما بهظر .. تتذكر بت الحاج يوسف العجيبة اللاقيتوها مرَّة في مكتبي»؟!
ـ «بت شنو»؟!
ـ «ياخي بتاعت العقرب الفي بيتنا»!
ـ «آآآ .. أها .. مالا»؟!
ـ «ضربت لي هسَّي منزعجة .. قالت أحذِّرك لو ما حصَّلت أنبوبة الغاز في بيتكم حتتسبِّب ليكم في كارثة»!
للوهلة الأولى لم أستوعب جيِّداً ما قال. لكن بعد برهة ألفيت سيارتي تهدر مجنونة، عبر جسر النيل الأزرق، وأنا خلف مقودها أكاد أدفعها بقدميَّ دفعاً صوب الخرطوم بحري. وما أن دلفت إلى الساحة المفضية إلى بيتنا، حتى صكَّت أذني جلبة عظيمة، وأبصرت سيارة زوجتي في وسطها مفتوحة الأبواب على مصاريعها، ينبعث منها دخان كثيف، وخلق كثيرون يتحلقون حولها يهيلون عليها تراباً كثيفاًُ، كما أبصرت صبية يتراكضون بأسطل الماء من كلِّ فج!
دُست على المكابح، بقوَّة، فأوقفت سيارتي، بالكاد، على بُعد خطوات من الحشد، حتى لقد طوَّحت مثيرة زوبعة من الغبار. وعندما انفلتُّ خارجاً منها لاحظت أن الحريق قد أخمد، فلم يتبق منه سوى دخان، وآثار طفيفة، وسيارة متسخة تماماً، و .. لدهشتي .. أنبوبة غاز متفحِّمة السـَّـطح، ملقاة غير بعيد من السَّيَّارة! وتسابقت أصوات متداخلة لمتطوِّعين يتسابقون في إبلاغي:
ــ «يا أستاذ ربَّنا شاف ليكم .. قدَّر ولطف .. لحقنا طفيناها قبل ما تنفجر»!
كان مبـلغ همِّـي، لحظـتها، أن أطمـئنَّ على زوجـتي وابنتي. وحمدتُّ الله حين أبصرتهما وسط زحام الجيران سالمتين لم تصب أيٌّ منهما بسوء .. فقط ألجأهما رعب المفاجأة إلى سور أحد البيوت القريبة!
فيما بعد روت لي زوجتي أنها، بعد عودتها من العمل، ذهبت لإحضار ابنتنا من المدرسة. ولأن أنبوبة الغاز في مطبخنا كانت فارغة، فقد أخذتها معها، حيث بدَّلتها في طريق العودة، ووضعتها في مقعد السيَّارة الخلفي. لكنهما، وعلى بُعد أمتار من البيت، فوجئتا بألسنة اللهب تندلع، على حين غرَّة، في الأنبوبة الجديدة!
(4)في طرحه لمفهومه الابداعي عن واقع «جمهوريَّات الموز» بأمريكا اللاتينيَّة، يروي غابريال غارسيا ماركيز أن عامل الكهرباء طرق بابهم، ذات صباح، ليبلغهم، على عجل، بأن عليهم أن يغيِّروا شريط المكواة! ثم ما لبث أن توهَّم أنه أخطأ العنوان، فاعتذر، وانصرف. لكن، بعد ساعات من ذلك، عندما حاولت زوجة ماركيز استخدام المكواة .. اشتعل الشريط»!

من فوق هذا النوع من الخبرات الشخصيَّة، أسَّس الروائي الثوري لمفهومه المتفرِّد عن «الواقع» الذي لاحظ، بحق، أنه «لا ينتهي عند سعر البطاطس»! ومن ثمَّ أطلق دعوته الجهيرة للإقرار بـ «السلطان المطلق للخيال»، حيث أن معظم حقائق العلم، بدءاً من الملاعق وانتهاءً بعمليات زرع القلوب، كانت، أصلاً، في مخيلة البشر!

صحيفة الرأي العام
كمال الجزولي
[/JUSTIFY]

‫4 تعليقات

  1. الاخ/كمال
    تحباتى لك واسرة الكريمة
    هذه قصة مشوقة ولولا كتبتها انت لما صدقت
    الرواية
    بس فى طلب نرجو تعين بنت الحاج يوسف دى
    فى جريدتكم الغراء يمكن يستفيد منها القارى
    يوما ما
    تحياتى

  2. البت دي كنز رهيب من دربك ده ولمجلس الوزراء والبت في يدك … وتقعد جنب البشير علي يمينو وتكشف ليهو الحاصل شنو في الحفرة الواقعين نحن فيها من ربع قرن … وتدينا رأيها في المتعافي وعلي محمود وتشوف ليها كم عقرب كده واسطوانة غاز حاتنفجر في راسنا مع قرارات الوالي ومواقف الباصات يعني البت دي ممكن تحل لينا مسألة الخريف دي في رمشة عين … ونعمل عمايل ياراجل … وبعدين ممكن نشغلها بالساعة يعني تمشي امريكا 6 ساعات بـ10 مليار ماحتشوف ليهم الانتخابات ماشة وين ويعملوا شنو وكسبان كسبان … والعملية تورور معانا وآخر شرشحة بجوازنا في اوربا والدول المتقدمة ههههاي

  3. [SIZE=4]البت دي عندها اتصال بالجن
    وطبعا الجن هو المسيطر
    الظريف الماديين والعلمانيين زي كمال الجزولي يجي أبسط دجال ولا حاوي يلخبط حساباتهم : )[/SIZE]