رأي ومقالات

في ذكرى رحيلها السيندريلا سعاد حسني

أكثر من أربعين عاما قضيتها متجولا في رحاب السينما ، جمعت خلالها الكثير من المعرفة بالفن السابع ، في السودان ومصر والسينما العربية والإفريقية وأيضا العالمية ، وخلال هذه السنين الطويلة لفتت نظري الكثير من الأفلام والمقالات النقدية وقصص وحكايات السينما التي لا تنتهي ، وهي قصص وحكايات ممتعة وشيقة جدا ، بالطبع يمكن أن أذكر أسماء المئات من الممثلين والمخرجين وصناع السينما في العالم ولكن تبقى دائما السيندريلا سعاد حسني في المقدمة ، ويمكن أن أورد عشرات الأسباب لذلك ، إلا أن نهايتها المأساوية تبقى مربط الفرس ، فحتى اليوم لست قادرا على فك رموز النهاية المأساوية .
أجريت معها حوارا في ستينات القرن الماضي نشرته مجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح السودانية ، إستغرق حواري معها نحو أربع ساعات كاملة وكان من المفترض لساعة واحدة فقط حسب الإتفاق ، كانت رائعة جدا ، كريمة جدا ، خفيفة الدم جدا ، ذكية جدا ، ولن أتحدث عن جمالها ورشاقتها فذلك مما لا يمكن وصفه .
شاهدت معظم أفلامها واستمتعت بجميع أفلامها وآخر فيلم شاهدته لها كان بعنوان ” الراعي والنساء ” مع صديق العمر الفنان الراحل أحمد زكي ، وكنت وقتها مدير الرقابة بقناة الأفلام براديو وتلفزيون العرب ART وبعدها حدثت الفاجعة بسقوطها من الدور الثاني عشر في عاصمة الضباب لندن قيل عنه ” إنتحار ” وقد ظللت كل سنوات حياتي أردد في مقالاتي عنها أنها أغتيلت .
حاليا تمر الذكرى الثالثة عشر على رحيلها المحزن المفجع في 21 يونيو عام 2001 ، وما زلت بعد كل هذه السنوات مخلصا لفنها وروعتها ورشاقتها وأنها النموذج الحي للممثلة والفنانة الشاملة .

و بالرغم من زخم الأحداث السياسية في مصر إلا أنها لم تغيب وذكراها العطرة كانت في غالبية القنوات الفضائية العربية والعالمية إعترافا بدورها الذي لا يمكن إغفاله في تاريخ السينما في مصر وفي العالم العربي والعالمي
كما قام نشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي ” الفيس بوك ” بوضع صورها و تحميل مقاطع من أفلامها ، تلك الأغاني مثل أغنية ” الدنيا ربيع “، من كلمات صلاح جاهين التي كانت تربطه معها علاقة صداقة قوية جدا ، و أغانيها في فيلم ” صغيرة على الحب ” و أغنية ” يا واد يا تقيل ” .
كانت أول بطولة للسندريلا فيلم “حسن و نعيمة ” عام 1959 مع الفنان محرم فؤاد وكانت وجها جديدا في ذلك الفيلم ، و اخراج هنري بركات .
يذكر أن سعاد حسني ولدت في حي بولاق بالقاهرة في 26 يناير 1943 و اسمها بالكامل سعاد محمد كمال حسني البابا ، و كانت لها 16 اخا و أختا ، منهم الفنانة نجاة الصغيرة ، و ظهرت في برنامج الأطفال الاذاعي ” بابا شارو ” بأغنية ” أنا سعاد أخت القمر ” .
ثم اكتشفها بعد ذلك الشاعر عبد الرحمن الخميسي الذي اقتنع بموهبتها و مثلت في مسرحية ” هاملت ” لشكسبير في دور أوفيليا .

من أشهر أفلامها ” صغيرة على الحب ، و غروب و شروق ، و الزوجة الثانية ، و أين عقلي ، شفيقة و متولي ، و الكرنك ، و خللي بالك من زوزو” الذي حقق نجاحا وقت عرضه ، و آخر فيلم قدمته للسينما كان ” الراعي و النساء ”
و المسلسل الوحيد الذي قدمته ” هو و هي ” مع الفنان أحمد زكي .
تزوجت خلال حياتها خمس مرات حيث كانت أول مرة من الفنان عبد الحليم حافظ ، و التي تضاربت الأنباء حوله الى أن صرحت شقيقتها نجاه بان عائلتها اعترفت بهذا الزواج ، ثم تزوجت بعد ذلك من المصور صلاح كريم لمدة عام ، و بعدها تزوجت من المخرج علي بدرخان و استمر هذا الزواج لمدة أحد عشر سنة ، و انتهى بالطلاق عام 1980 .
كتب الكثير جدا عن سعاد حسني في مصر وفي العالم أجمع وقرأت الكثير جدا مما كتب ، كتب عنها سينمائيون مصريون وعرب واستحقت عن جدارة كلمات المديح والنقد الموضوعي والإشادة التي أكدت نبوغها وقدرتها الفائقة كممثلة وفنانة شاملة ، وفي كل تاريخ السينما المصرية والعربية توجد دائما أسماء مثل سعاد حسني وفاتن حمامة وأحمد زكي دون إجحاف للمبدعين الآخرين ، وأقول لكم صراحة لو كانت هناك سينما سودانيه متطورة راسخة ثابته لكان الناس عرفوا تحيه زروق وتماضر شيخ الدين وفايزه عمسيب وفتحيه محمد احمد وبلقيس عوض وغيرهن .

كتب عنها الصديق الناقد السينمائي الفذ كمال رمزى قائلا :

“رحلت سعاد حسنى منذ سنوات، لكن حضورها الآسر لا يزال نابضا بالحياة، فثمة شىء ما يتلألأ فى روحها، يظهر جليا على الشاشة، ويبدو كسر من الأسرار التى قد يصعب إدراكها أو تفسيرها.. إنه ذلك النبل المبهم، الأصيل، الذى يلتمع للحظة فى عينيها، مهما كان إذلال الموقف الذى تعايشه.. عندها، دائما، درجة من الكبرياء الإنسانى الفريد، لا تخطئها عين المشاهد، تتجسد فى لفتاتها، ونظراتها، حتى عندما تؤدى دور المرأة التى سحقتها الظروف، وهى تعطى إحساسا هائلا بالقدرة على منح الآخرين دفئا ورحمة وحنانا، فى الوقت الذى تعانى فيه البرودة والجفاف والألم.
فى القاهرة 30 لصلاح أبوسيف، وشفيقة ومتولى والكرنك لعلى بدرخان، تؤدى دور الإنسانة المغلوبة على أمرها ، محظية فى الفيلم الأول، عاهرة فى الفيلم الثاني، مغتصبة فى الفيلم الثالث.. لكنها، وسط العتمة المحيطة بها، تشع بضياء ينفذ وسط الظلام ليثبت أن روح الإنسان، مهما علاها الصدأ، تظل لامعة فى جانب من جوانبها، فعندما تتزوج في القاهرة 30 من «محجوب عبدالدايم» بأداء بديع لحمدى أحمد تعلم تماما أن زواجها ليس سوى عقد مزور ، مشين، ستصبح بمقتضاه خليلة خاصة للباشا، ترفع عينيها لأول مرة، بعد الزفاف، إلى وجه عريسها النذل، المتوتر، وقبل أن تنطق بكلمة، تجعلنا نحسن فى نظرتها المليئة بالشجن، شفقة غامرة تجاه الرجل الفاقد الكرامة، والذى عليه أن يقوم بدور الزوج والقواد فى آن واحد.
تلك النظرة المؤثرة، التى تلامس شغاف قلب المشاهد، والتى تعتبر إبداعا لا ينتمى ولا يتوفر إلا عند سعاد حسنى، تتجلى فى عينيها تجاه شقيقها فى شفيقة ومتولى مرتين مرة فى الحلم، أو المشهد التخيلى، حين يتراءى لها وهو يدخل إليها فى مخدعها بالوكر المشبوه، فلا تحاول المقاومة، بل تبدو كما لو أنها تتفهم مشاعره تماما، ويخفق قلبها مع قلبه، وتستسلم لمقتلها وقد انتابها ذلك الإحساس المرهف بالشفقة من أجله، والمرة الثانية واقعية عندما يصحبها إلى قريتهما المنسية فى الجنوب، ليقتص منها، فلا تجد فى عينيها أى أثر لكراهية أو غضب ولكن يتجسد فيهما ذلك الشعور المدهش بالرحمة والمحبة والشفقة.
فى الكرنك، تنهار، وتهان، وتغتصب، ولكنها وهى فى محنتها، قادرة على أن تحنو، كأم رءوم، على حبيبها المدمر مثلها إسماعيل الشيخ – نور الشريف الذى تهبه نفسها، ويكتشف، فى الفراش، أنها ليست عذراء، وبينما يصبح نهبا للإحساس بأن يدا تعصر قلبه، يرتسم على وجهها المنكسر نوع من العذاب النبيل، من أجله وليس من أجلها.”

الكاتب المسرحى، المخرج، القناص، الصحفى، السيناريست، عبدالرحمن الخميسى، صاحب الخبرة الطويلة، العميقة، بالفن والحياة، أدرك فورا أن البنت التى تقف أمامه، التى لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، سعاد حسنى، تتمتع بمؤهلات جعلته يختارها، من دون تردد للقيام ببطولة حسن ونعيمة الذى أخرجه بركات 1959، عن قصة عبدالرحمن الخميسى، الذى شارك المخرج فى كتابه السيناريو.
سعاد حسنى: وجه صاف بقدر ما هو جميل، متسق التقاطيع، جماله ليس من النوع الطاغى الذى يسدل ستارا سميكا بينك وصاحبته، ويخلف إحساسا بأنها بعيدة، قادمة من عالم آخر، ولكنه جمال أليف، تأنس له، تشعر أن صاحبته قريبة منك، قرب الأخت أو ابنة الخال أو الزميلة أو الجارة، وهو وجه شفاف، يعبر ببساطة عن أدق الانفعالات، بألوانها ودرجاتها المختلفة والمتباينة، فالعينان الواضحتان، الصادقتان، تكشفان بوضوح عما يعتمل فى روحها، فإذا ابتهجت فإن أشعة الفرح تنفذ إلى قلبك، وإذا حزنت فإن غيوم الكدر تصبح ملموسة أمامك. وهى، تنتقل من انفعال لانفعال، على نحو سلس، لا أثر فيه للصنعة أو التزيد، تلقائية إلى آخر الحدود، مع انضباط حاسم. تقنعك فى صمتها.. وإذا تكلمت، فإن صوتها يجسد بنبراته أدق خلجاتها.
عقب نجاح حسن ونعيمة، لفتت سعاد حسنى الأنظار،وفورا، التقطها أباطرة السينما التجارية، الذين لم يجدوا فيها بحداثة سنها، وحيويتها، إلا البنت المنطلقة، اللطيفة، الرقيقة، الشقية أحيانا، الأميل إلى المرح، والتى تتعلق بعنق من تحب، وقد تبكى قليلا، بكاء طفوليا، ثم تغمرها السعادة فى النهاية، حسب تقاليد السينما المصرية و قدمت من خلال حسام الدين مصطفى، أفلاما من نوع الأشقياء الثلاثةوسر الهاربةوشقاوة بنات والشياطين الثلاثة والمغامرون الثلاثة وشقاوة رجالة ، وعلى ذات المنوال، قامت ببطولة عدة أفلام لنيازى مصطفى: الساحرة الصغيرة – لعبة الحب والزواج – صغيرة على الحب- جناب السفير – وبابا عايز كده ، وعلى الرغم من أن أدوارها فى هذه الأفلام، مكتوبة بإهمال ومكررة، فإنك ستلمح إبداعا شخصيا منها، فى هذا المشهد أو ذاك، بالإضافة إلى أن تلك السنوات، ساعدت على صقل قدراتها، من ناحية الغناء، والرقص، فضلا عن الأداء التمثيلى بالضرورة.
فى السبعينيات، كان جيل جديد يتهيأ للانطلاق، يبحث عن نجمة من الممكن أن تتوافق معه، وأن تعبر عن همومه وقضاياه، وهى أيضا، فى ذات الوقت، بحسها السليم كانت ترنو إلى نوع آخر من الأفلام، تقدمها فى أدوار أعمق من التى قامت بها من قبل، لذا من الممكن القول إن فرسان السينما الجديدة كانوا يبحثون عنها، بقدر ما كانت هى تبحث عنهم.. كلهم أبناء جيل واحد.
السيندريلا ولدت عام 3 194 كما قلنا وزملاء جيلها ولدوا قبلها أو بعدها بعدة سنوات : رأفت الميهى 1940، على بدرخان 1946. محمد خان 1942، سعيد مرزوق 1940، سمير سيف 1947 هؤلاء جميعا، نجحوا بها، وبدورها أضافت لهم الكثير.
مع رأفت الميهى كاتب السيناريو المتوهج، تقدم غروب وشروق وعلى من نطلق الرصاص لكمال الشيخ وغرباء لسعد عرفة، وأين عقلي لعاطف سالم، والحب الذى كان لعلى بدرخان، الذى أخرج لها، إلى جانب شفيقة ومتولى والكرنك : أهل القمة والجوع والراعى والنساء، و تألقت فنيا مع محمد خان، فى موعد على العشاء، ومع سعيد مرزوق زوجتى والكلب والخوف ومع سمير سيف تتجلى فى كوميديا غريب فى بيتى بعد فيلمه الرائع المشبوه > .
فى هذه الأفلام وغيرها، دخلت مرحلة جديدة: المرأة الناضجة التى تواجه، بكل ما أوتيت من قوة، عالمها، والتى، على الرغم من عنائها، تحاول أن تعيش حياتها، وتنتزع حقها فى البقاء، لقد وجدت الفنانة الكبيرة، أخيرا، تلك الأدوار المتعددة الجوانب، البعيدة الأغوار، التى تعكس عناء السبعينيات، والثمانينيات، الاجتماعية والسياسية، وكان عليها أن تتفهم وتعبر، عن أكثر المواقف تركيبا وتعقيدا وفعلا، اجتازت الاختبار بتفوق، فتقاسم معها الآخرون النجاح.
فى أسلوبها لا تملك سعاد حسنى القدرة المرهفة على الإصغاء فحسب، حيث تتحول كلمات الآخرين إلى انفعالات على صفحة وجهها، ولكنها أيضا تعايش، وتدرك، مشاعر الشخصية التى تقف أمامها. وبالتالى فإنها حين تتكلم، تشحن كلماتها، بدقة، بالمعانى التى تعلم تماما كيفية وقعها ورد فعلها على من توجه له الحوار، فمثلا، فى الحب الذى كان تواجه زوجها بلا توقع منه، بطلب الطلاق. ولأنها لا تكرهه، ولا تريد أن تحرجه أو تجرحه، فإن طريقة نطقها للجملة تجمع بين الحزم والرقة. صوت منخفض ولكنه رائع .

تصل سعاد حسنى بأسلوبها إلى مستوى رفيع فى الجوع وعلى الرغم من تفوق العديد من مشاهد الفيلم، إلا أن ثمة مشهد يعد من أجمل المشاهد التى أدتها وأكثرها اكتمالا، فعندما تختلى البطلة، الحامل سفاحا، بزوجها الذى تستر عليها، عبدالعزيز مخيون، فى حجرته الرطبة المظلمة، البالغة الفقر، تعبر سعاد حسنى بهدوء، عن خليط فوار، متجانس ومتضارب، من مشاعر حادة فياضة، لا تلجأ إلى الكلام، غير الموجود أصلا، ولكنها، بعيونها، واختلاجة شفتيها، تظهر له إلى جانب المودة، إحساسها بالعرفان، وتبدو فى لحظة، كما لو، أنها تتمنى أن تهبه نفسها، وأن يقترب منها، ويلمسها.. هى أبعد ما تكون عن الرغبة، ولكنها تريد أن تبهجه، وأن تقول له، بروحها، إنها بريئة وطاهرة، أو على الأقل ستصبح كذلك، وأنها لن تنسى هذا الجميل وهذه الرحمة. إنه من المشاهد التى تعبر عن ثراء روح الإنسان وسط الفقر المادى الشديد.
سعاد حسنى، وهى تعبر عن خصوصية الموقف الذى تؤديه، تعبر فى ذات الوقت عما هو أعم وأشمل فى الخوف تعبر ابنة السويس المهاجرة إلى القاهرة بعيونها الزائفة، المتوترة، عن حيرة وقلق جيل نكسة 1967.. وفى المشبوه ترنو فتاة الليل، لحياة مستقرة آمنة، خاصة بعد أن أنجبت وليدا أصبح صبيا، وفى أكثر من موقف، تعبر عن استعداد المرأة، الأم، الزوجة، للدفاع عن أسرتها الصغيرة، بكل ما أوتيت من قوة.. وفى واحد من أجمل أفلام حسن الإمام، الذى كتبه صلاح جاهين، تطل علينا سعاد حسن، وهى تجسد بأدائها الفريد، فى خللى بالك من زوزو، شجاعة الإنسان حين يواجه واقعه، فها هى بكبرياء، تعترف أنها ابنة الراقصة البدينة، وفى ذات الوقت، تثبت أن الكائن البشرى، يملك القدرة بالعلم والعمل، على صنع مستقبله.. سعاد حسنى، فى جملة واحدة هى شمس جيل باكمله .
الجدير بالذكر أنه تم مؤخرا الكشف عن فيلم الفنانة الراحلة بعنوان ” أفغانستان .. الله وأعداؤه ” تم منعه من العرض منذ 39 عاما تقريبا .

بقلم : بدرالدين حسن علي