الطاهر ساتي

وللقصة بقية ..!!.

وللقصة بقية ..!!.
في عيد رمضان الفائت، كتبت عن بعض البسطاء الذين يجملون وجه الحياة السودانية – بالتجرد ونكران الذات – بعيدا عن الاضواء وبلا ضوضاء، ولايزال في الواقع والخاطر البعض الآخر، وكلهم – كما جليبيب – ما ضرهم ألا يعرفهم زيد من الولاة أو عبيد منهم.. وبالمناسبة، للصحابي جليبيب سيرة قصيرة في كتب التاريخ الإسلامي..أحبها جدا، ولاتفارق خاطري..إسترجعها بين الحين والآخر، لتستمع بها النفس..وزحام المدائن، شوارع الحواري، أزقة الأحياء، أسواق العامة وغيرها هي الأمكنة التي تعيد ترسيخ تلك السيرة في ذاكرتي..دخلت إلى مكتب أستاذي حسن فكي علي، معلم التربية الإسلامية بمدرسة المرين الثانوية، ذات ظهيرة مقترحا : ( عندنا حصة فنون، وأستاذ عوض عيان و ما جا الليلة، ما في طريقة تجي تملا لينا الحصة دي يا أستاذ؟)..( جدا، يلا على بركة الله)، قالها هكذا، ثم نهض وخرج من مكتبه قاصدا ( فصل علي)، فتبعته إلى هناك..كل تفاصيل اللحظة في ذاكرتي، بما فيها الهدوء الذي عم الفصل حين سألنا أستاذ حسن : (فيكم زول بيعرف جليبيب؟)، وقف زميلنا ياسر قائلا ( أيوه يا أستاذ، جليبيب ده من الصحابة رضوان الله عليهم )، ثم جلس ..!!

** في إحدى المعارك، قدم جيش المصطفى صلى الله عليه وسلم الكثير من الشهداء والجرحى..إنتهت المعركة، وصار الصحابة يتفقدون بعضهم..بعد إنتهاء علمية حصر الشهداء والجرحى، سألهم الحبيب المصطفى عليه السلام : ( هل تفقدون من أحد؟)، فقالوا ( نعم نفقد فلان وفلان وفلان و..)، وشرعوا يعددون أسماء الأعيان والاثرياء وذوي القربى والنفوذ في المجتمع.. وحين إنتهوا، قال لهم الحبيب صلى الله عليه وسلم بحزن (ولكنني أفقد جليبيبا )..فاحتار الصحابة وأندهشوا وتساءلوا فيما بينهم ( من جليبيب هذا الذي يُحزن فقده رسول الله ؟)..ثم هبوا بالبحث عنه في ميدان المعركة وسط الجرحى والشهداء.. وجدوه شهيدا وسط سبعة من قتلى المشركين، قتلهم جميعا ثم إستشهد متأثرا بالجراح ونزيف الدم الطيب.. عاتبوا أنفسهم، وقال الفاروق عمر رضي الله عنه قولته الشهيرة : ( كم من جليبيب مات في سبيل الله وما ضره ألا يعرفه عمر)..وقف الحبيب المصطفى عليه السلام فوق جسده المثخن بوقع الرماح والسيوف، وقال دامعا : ( قتلتهم ثم قتلوك يا جليبيب، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك )، فأدمعت مقل الرجال..ثم جلس صلى الله عليه وسلم بجانب الجسد الطاهر، وحمله ووضعه على ساعديه الشريفتين، وأمر صحابته بأن يحفروا له قبرا، فحفروا..وطوال ساعات الحفر لم يكن لجليبيب فراشا غير ساعد رسول الله..يا لهذا الشرف العظيم ..!!

** ذاك جليبيب..كان مغمورا بحيث لم يفقده الصحابة بعد إستشهاده، وهو الذي قاتل في صفهم قبل الإستشهاد، ولكنه أرغمهم على أن يعاتبوا أنفسهم .. كان فقييرا ومحروما من ملذات الدنيا، وظل بعيدا عن أضواء العرب إلى أن لقى الله شهيد بعد أن قدم التضحيات..هكذا كانت حياة جليبيب..بسيطة وعفيفة و ذات مواقف عظيمة، ما ضرها ألا يعرفها كبار القوم آنذاك، إذ يكفيه شرفا بأنه كان حبيب حبيب الله صلى الله عليه وسلم..سردها أستاذنا حسن فكي علي يومئذ لطلاب فصل علي، وفاضت عيونهم بالدموع، فأستهوتني، ولاتزال..كل أغبش أغبر، سمح المحيا وعفيف النفس، أرى فيه جليبيب..وكل مخلص متجرد، لوطنه والناس والحياة، أرى فيه جليبيب..وما أعظم التاريخ حين يزيح الستار عن فضائل غمار الناس وبسطاء المجتمع..فليكن – ياصديقي – جليبيب مدخلا لسرد حكايات سودانية تستمد تفاصيلها من واقع حياة الناس في بلدي، إعتبارا من الغد وأيام العيد التالية..نعم، هذه الأرض حبلى بالمواقف التي تجسد قيم التضحية والكفاح والطهر والنقاء والبذل ب(تجرد ونكران ذات)، وما ضر سادتها أوسيداتها ألا يعرفهم أو يعرفهن أحد..يكفي أن صدقهم يجسد أروع ما في هذا الوطن الجميل ..!!

إليكم – السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]