جعفر عباس

رقيب وضحية للرقابة

[ALIGN=CENTER]رقيب وضحية للرقابة [/ALIGN] لم أكن اكترث لقوانين العمل الخليجية التي تحظر الجمع بين وظيفتين، فبعد أن تركت العمل المسائي في جريدة الشرق القطرية، صرت أعمل في تلفزيون قطر كرقيب على المواد التي باللغة الإنجليزية، وكان الرقباء ينقسمون إلى لجان بعضها يراقب المواد العربية وبعضها الأفلام الهندية، بينما كانت لجنتنا تراقب البرامج والأفلام التي لغتها الإنجليزية وكنا في هذه اللجنة جميعا من السودانيين، وكانت فترة ممتعة جدا، فقد كانت هناك موارد ضخمة متوافرة لدى التلفزيون القطري وكان بالتالي يستطيع شراء الكثير من البرامج والأفلام الناجحة جماهيريا، ولكن شروط الرقابة كانت صارمة، وما فيها “يمه ارحميني”، أي لقطة فيها صليب او خنزير او تنورة قصيرة إلخ بره .. آوت.. حذف، وبالتالي كانت لجنتنا متخصصة في البتر والقص والقطع، وكان ذلك يدر علينا دخلا شهريا طيبا، فقد كنا نتقاضى عن كل ساعة رقابة 35 ريالا، هل كان وقتنا رخيصا لهذه الدرجة؟ لا، فالمدة لا تحسب بكَم من الوقت نقضي في مبنى التلفزيون بل بمدة طول البرنامج أو الفيلم، وافترض مثلا أن هناك فيلما مدته ساعتان، واضطررنا الى بتر مشاهد مدتها ثلاث دقائق من أول عشر دقائق (لا نبتر فعلا بل نكتب تقريرا يقول لابد من حذف المشهد الفلاني في الدقيقة كذا والثانية كذا من الفيلم فيقوم جماعة المونتاج بعمل القصقصة اللازمة).. خلاص الفيلم باظ، ولن يستطيع أحد فهم محتواه بعد بتر عناصر من مقدمته بسبب وجود ممارسات “قلة أدب” متكررة، عندها نقول ان الفيلم غير صالح للعرض، ولكننا نتقاضى المكافأة عن كامل مدة الفيلم الأصلية.. وبالمقابل كانت هناك مواد تنشف ريقنا ونفلفلها بحذر وتأخذ منا وقتا أطول من وقتها الأصلي.
كان مدير تلفزيون قطر وقتها الصديق سعد الرميحي، المستشار الصحفي بالديوان الأميري حاليا، وكان هناك فيلم طويل جدا يحكي قصة حياة لاعب كرة القدم الأشهر البرازيلي بيليه، وفي 90% من اللقطات التي ظهر فيها كان الصليب يتدلى من عنقه أو يقوم هو برسم الصليب على صدره، كلما سجل هدفا، ومن مدة الفيلم البالغة نحو ثلاث ساعات لم نترك سوى نحو 32 دقيقة، والأستاذ سعد محب للرياضة ويبدو أنه من عشاق بيليه، وبما أنني كنت الوحيد من أعضاء اللجنة الذي تربطه به علاقة شخصية، فقد استدعاني الى مكتبه: وش اللي سويتوه في الفيلم يا جعفر؟ قلت له: عملنا بتعليمات سيادتكم والتزمنا بلوائح الرقابة!! قال: يعني مو ممكن تخففوا القصقصة شوي منشان الفيلم ما ينرمي؟ قلت له: على جثتي .. وصفني بـ”المفتري”، فذكرته بما حدث في لجنتنا عندما دخل علينا محمد الحبابي المسؤول عن الرقابة، ذات يوم وهو يقول:وش فيكم؟ شلون ما شفتو صليب ها الكبر؟ (وأشار بيده بما يفيد الضخامة)، وضبطنا شريط الفيلم على النقطة التي أشار اليها، ورأينا “صليبا” على رأس منزل، وحركنا الشريط إلى الأمام والخلف واتضح أن شكل الصليب ناجم عن تقاطع خشبتين في عمود هاتف او تلغراف
كانت شروط الرقابة وقتها عجيبة: أي لقطة لخنزير لابد من حذفها.. لا بأس، ولكن حذف الخنازير كان يطال حتى البرامج العلمية التي تتناول حياة الحيوانات في الحظائر او البرية،.. وحتى لو كان البرنامج يتعلق بإثبات أن مضار لحم الخنزير هي كذا وكذا.. وكانت هناك رقابة قبْلية على الصحف، أي ان المواد تعرض على الرقيب “قبل” النشر، وعندما أصدرت كتابي “زوايا منفرجة” في عام 1994 وكان تجميعا لمقالات نشرتها في جريدة الشرق القطرية طالبت الرقابة بحذف مقالات أو أجزاء من مقالات من الكتاب: يا جماعة عيب.. كل هذه المواد أجيزت من قبل جماعتكم ونشرت في الصحيفة بموافقتهم!! قالوا: المقال يقرأ في يوم وينساه الناس أما الكتاب فيبقى.. وانت مقالاتك فيها “خبث” بمعنى أنها ملغومة.. ولكن وفي نهاية الأمر، صدر الكتاب بلا بتر أو حذف… إيه كنا فين وبقينا فين!

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com