بيانات ووثائق

نميري : بعد 3 سنوات من وفاته و 43 سنة من ثورته«2»

[JUSTIFY]عجيب أمر الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، فما جاء عصر إلا وهناك معجبون به مغالون في إعجابهم، وقادحون مغالون في قدحهم.

ولعل ملاحظتنا الأولى في تتبع أثر جعفر نميري الإنسان، أن نميري لم يكن مفكراً صاحب نظرية ولا داعية سياسياً يمكن أن تلتقط أفكاره من خلال كتاباته ودعاويه، ولكن كان «رجل دولة» عملي المنزع يهتم بالقضايا التنفيذية ويعبر عن نفسه من خلال المواقف العملية والمسائل الجزئية. ونميري في الغالب يتخذ موقفه ضمن الملابسات الواقعية التي تحيط به، ويستجيب في هذه المواقف للسياق العام للأحداث والظروف. ويمكن تتبع مواقفه من خلال السياق العام والاستدلال على نسيجه الفكري ومنزعنا النظري والمصادر التي شكلته.
وتأتي هذه الأسطر نتيجة لجهد توثيقي اعتمد على قراءة عدة مؤلفات كتبها نميري أو كتبت عنه، والاطلاع على ملف خدمته العسكرية منذ تخرجه برتبة الملازم الأول في 19 ديسمبر 1952 حتى وفاته في 31 مايو 2009م. وكذلك الاستماع إلى إفادات لمعاصرين وشهود عيان له. وقد نكون في حاجة إلى تأكيد أن هذه الأسطر ليست «سيرة ذاتية» لجعفر نميري، بقدر ما هي محاولة لاكتشاف جوانب أخرى أو تتبع الآخر من شخصية رجل حكم البلاد «16» عاماً وقد قدر لي الاقتراب من وثائق وشهادات وإفادات ومعرفة مباشرة بمعاصرين لنميري، ونأمل أن يتم التعامل معها في مستوى فكري ملؤه الجد والحرية والتشاور والشفافية والاختلاف الرفيع أحياناً في ما يحلو فيه الاختلاف ويصح ويفيد.
وفوق كل هذه الملاحظات والهوامش، سيظل نميري رحمه الله الرجل الأكثر شهرة وإثارة للجدل في تاريخ الجيش خلال مائة عام من تاريخ السودان المعاصر، بدأت في 25 مايو 1969م.

وثائق أمريكية
هواة التفسير التآمري للتاريخ قد تثيرهم الإشارة إلى أن تقرير وكالة المخابرات الأمريكية عن الضابط جعفر محمد نميري حين ابتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية لنيل درجة الماجستير في العلوم العسكرية، أفاد بـ «إذا قدر وقوع انقلاب عسكري في السودان يستمر لفترة طويلة على طريقة عبد الناصر، سيقوده هذا الضابط». وردت هذه الإفادة في هامش في كتاب الأستاذ الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد «السودان المأزق التاريخي آفاق المستقبل». ولم يقدم المؤلف أية شروح عن الإشارة أو مصدرها.
وفي رحلة البحث لإعداد هذا الملف، أبدى كثير من المعاصرين لنميري دهشتهم للعبارة، بل أن بعضهم شكك فيها. والشيء بالشيء، فقد ورد في تقرير سري صدر بتاريخ نوفمبر 1964م، رشح بموجبه نميري لبعثة الأركان حرب في أمريكا، في الجانب المتعلق بقدراته على الكتابة باللغة الإنجليزية، أفاد التقرير أن كتابته مرضية، لكنه يحتاج إلى تأهيل لكي يتحدث بطلاقة. وفي النقاش أفاد التقرير أن مستوى نميري فوق الوسط، لكنه متحدث لبق ويحرص على تقديم أفكار جديدة في نقاشه. وعموماً وصف التقرير نميري بـ «ضابط متميز وصاحب كفاءة ومعرفة ممتازة بالنظم العسكرية، وقائد فذ ويمكن أن يقود بكفاءة أية مجموعة من الضابط. وانتهى التقرير إلى التوصية بابتعاثه إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
في صعيد متصل، تكشف وثائق وزارة الخارجية الأمريكية عن السودان التي استعرض فصولها الصحافي السوداني المقيم في واشنطن محمد علي صالح، عن جوانب جديدة في شخصية نميري.

وفي أواخر سنة 1972 كتب كيرتس مور، القائم بالاعمال الأمريكي في الخرطوم، تقريراً شخصياً عن نميري. وكان هذا آخر تقرير سنوي يكتبه مور، لأنه بعد أربع سنوات في السودان ومع بداية السنة التالية «1973م» اغتيل في السفارة السعودية في الخرطوم مع كليو نويل، السفير الأمريكي، بواسطة جماعة تابعة لمنظمة أيلول الأسود الفلسطينية.
وحمل موضوع التقرير عبارة ملاحظاتي عن نميري، وجاء فيه: لثلاث سنوات ونصف سنة، ظللت أراقب الرئيس جعفر نميري وهو يحكم السودان، مراقبة من بعد، ومراقبة مباشرة. وخلال هذه السنة فقط، قابلت نميري «16» مرة، بعضها مع زوار أمريكيين وبعضها نحن الاثنين فقط. ومع اقتراب نهاية السنة، أرسل هذا التقرير وألخص فيه انطباعاتي عن نميري في النقاط التالية:
٭ في أعماقه، يظل نميري عسكرياً. ويظهر هذا في تفضيله للمناقشات العسكرية ومقابلة العسكريين والتعامل معهم. ويظل قائداً ميدانياً، يفضل عدم التقيد بالبروتكوليات والرسميات. ولاحظت أنه مع الحرص على المحافظة على لوازم منصبه الرسمي، يميل نحو علاقات غير رسمية وودية مع مساعديه ومستشاريه، والذين طبعا يعاملونه في احترام يناسب مكانته. كما أن هؤلاء، وخاصة صغار الضباط، يحبونه لأنه نميري الإنسان.
٭ لاحظت أن نميري يجيد العمل أكثر من التفكير. يجيد إصدار الأوامر، والقاء الخطب والتجول في المدن والقرى، وتقديم الوعود للمواطنين. وحتى بدون خطاب مكتوب وبكلام شفهي، صار يجيد مخاطبة المواطنين، وكسب حبهم وتأييدهم. وصار يقدر على إقناع كثير منهم بأنه واحد منهم. وانه يمثل ما يريدونه في قائدهم، سوى في مظهره العسكري أو في قدرته على القيادة.

٭ يقدر نميري على كسب الناس أكثر عندما يتحدث إليهم بدون خطابات مكتوبة. وفي الحقيقة، تبدو هذه الخطابات المكتوبة مملة، في محتواها وفي طريقة القائها. لكن، في الجانب الآخر، تعلم نميري أن الخطابات المكتوبة تحميه من الوقوع في أخطاء تسبب مشكلات داخلية وخارجية. ومرة سمعته ينتقد الرئيس الليبي معمر القذافي، لأنه يتكلم بدون الاعتماد على خطابات مكتوبة. وقال له إنه يسبب لنفسه مشكلات، لأن وكالات الأخبار والحكومات تتابع ما يقول، لكن من المفارقات أن نميري نفسه لا يفعل ما ينصح به.
٭ لاحظت أن نميري تعود على الحكم، وتغلب على الخوف والتردد، وصار يحكم بطريقة عادية بدون توتر. وصار يصدر الأوامر يميناً وشمالاً، وأحياناً في عفوية، وكأنه حقيقة قائد ميداني. وصار يرى أن قدره «من الله» هو أن يحكم السودان. ولم يعد يشك في موضوعين: أولا شرعيته. وثانياً قدرته.
لكن، يقول ناقدوه إنه يصدر أوامر ولا يتابع تنفيذها. وإن هذا يدل على جهله بعلم الحكم، وهو علم معقد. ونرى نحن أن الناقدين محقون هنا. ولكننا نلاحظ الآتي عن نميري: أولاً يتعلم الحكم بينما يمارسه. وثانياً يعرف أنه لا يملك كل المؤهلات.
٭ نقول نحن إن هناك فرقاً بين أن يعرف وأن يعترف. وهو لم يعترف لشعبه ولم يعترف لي بنقص قدراته. لكنه أكثر من مرة، طلب مني معلومات وكتب تساعده في فهم الحكم، وخاصة المواضيع الاقتصادية .

٭ يتمتع نميري بثقة كبيرة في نفسه، ويوزع كثيراً من مسؤولياته على وزراء ومستشارين يثق فيهم. لكنه أحياناً، يغير رأيه بدون إبلاغ هؤلاء مسبقاً، أو استشارتهم مسبقاً. مثل قراره أخيراً بإلغاء ضريبة الدفاع بدون استشارة وزارة الخزانة.
٭ يحافظ كبار الوزراء والمستشارين على اتصالات شخصية، ومن وقت لآخر مع نميري. ومن بين هؤلاء: منصور خالد وزير الخارجية، وإبراهيم منعم منصور وزير المالية، لكنهم لا ينتقدونه إلا في مواضيع مهمة جداً.
٭ بالنسبة لنا، الأمريكيين، يرتاح لنا نميري كثيراً، ويبدو أنه، حقيقة يثق فينا. ويبدو أن الوقت الذي قضاه في الولايات المتحدة، خاصة في قاعدة ليفينويرث العسكرية «في ولاية كنساس» أثر عليه كثيراً. ولم نلتق أبداً بدون أن يتذكر أشياء من تجربته هناك، مثل فيلم عن التدريبات العسكرية طلب منه نسخة لتدريب جنوده. ومثل تنظيم هياكل عسكرية يريد أن يطبقها على القوات السودانية المسلحة.
٭ صار واضحاً أن نميري، منذ الانقلاب الشيوعي الفاشل في السنة الماضية، وقراره بالتحول نحو الغرب، لا يرى أمامه خياراً سوى الاعتماد علينا، خاصة في مجال المساعدات. ولكن يوجد اختلاف بين تودد نميري الشخصي العميق نحو الشعب الأمريكي وبين المواضيع السياسية. مثلاً: في السنة قبل الماضية، دعا أمريكيين من ولاية كنساس «منهم عائلة كان سكن معها لفترة من الزمن» لزيارة السودان. وكانت المناسبة هي الذكرى الأولى للانقلاب العسكري الذي جاء به إلى حكم السودان. وكان يعادي الولايات المتحدة عداءً قوياً.
٭ شعرت باختلاف في معاملاتي مع نميري، بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في بداية حكمه. كنت أقابله لأنفي عن الولايات المتحدة اتهاماته بمؤامرات ضده. الآن أقابله لأقدم له مساعدات. وصارت مقابلاتنا ودية جدا. وأحياناً يعد بتفيذ أشياء نطلبها منه، لكنه لا يتابع الموضوع. وأحيانا قبل أن أغادر أنا مكتبه يتصل تلفونيا بالوزير المسؤول.
٭ عمر نميري «42» سنة متزوج لكن بدون أطفال. أحياناً، تظهر زوجته علناً، وعادة تكون ضيفة رمزية في مناسبات تحضرها زوجات مسؤولين أجانب زائرين. ولكنها في مثل هذه المناسبات تتحدث قليلاً.
٭ يفهم نميري اللغة الإنجليزية فهماً جيداً، وفي اللقاءات الخاصة، يقدر على الحديث بها في شبه طلاقة، لكنه يخلطها بكلمات عربية.
٭ يقال إنه يشرب الخمر من وقت لآخر، لكنه لا يسرف في ذلك. والآن يحاول تقليل تدخين السجاير. وفي بداية السنة كان قد توقف عن التدخين، لكنه عاد إليه بسبب مشكلات داخل مجلس الوزراء.

نميري ووزراؤه
الحديث عن قوة نميري وقدراته يقودنا إلى البحث عن طريقة تعامله مع وزرائه، هل صحيح أنه كان فظاً في تعامله لدرجة أنه في بعض الأحيان يصل إلى حد الاعتداء عليهم بالضرب؟
يعتبر الدكتور إسماعيل أن هذه فرية كبرى، فـ «النميري على المستوى الشخصي ليس فظاً ولا يحتد، ربما يحتد في بعض الاجتماعات عندما يطول النقاش، وأذكر أن أحد الوزراء بعد تطبيق الحكم الاتحادي كان يعترض دائماً على كل شيء بحجة أنه ضد الحكم الاتحادي، وقمت بالرد عليه مصححاً من كون أن الحكم الاتحادي أصبح هاجساً. ورد على نميري بنعم سيكون هاجساً وبعبعاً».
ويتابع د. إسماعيل: أذكر أيضا في أحد اجتماعات المكتب السياسي دار حديث عن تفريغ العاصمة الخرطوم من النازحين. وعلق أحد الأعضاء بأن التفريغ ضد الدستور، ولكن نميري رد عليه «ضد الدستور شنو والله أنا زمان في ود نوباوي كنت أمنع أي زول يجيء حائم بعد الساعة الثانية عشرة».
ويخلص د. إسماعيل إلى القول «على المستوى الشخصي جعفر نميري رجل مهذب جداً، وكنت عندما أرافق الصحافيين لزيارته في منزله كان يقوم بنفسه ليغسل أيدي ضيوفه قبل تناول الوجبة، وأحيانا كان يرافق ضيوفه ليلاً في جولة طواف في العاصمة الخرطوم قائداً السيارة بنفسه غير آبه بما يسببه هذا الأمر من إرباك لرجال المراسم والأمن».

ورغم أن قصص عزل نميري للوزراء فجأة عبر نشرة أخبار الثالثة ظهراً في الإذاعة السودانية بصورة درامية تملأ مجالس الخرطوم، إلا نميري في أكثر من لقاء صحفى نفى هذه القصص جملة وتفصيلاً، مؤكداً أنه يتخذ كل القرارات حسب الدستور والقانون.
وانقطعت العلاقة بين نميري والفريق عبد الوهاب إبراهيم وزير الداخلية ومدير جهاز الأمن القومي منذ إعفاء عبد الوهاب في 1979م، ولم يلتقيا إلا في القاهرة في عام 1988م، حين زار نميري عبد الوهاب في المستشفى بعد عملية جراحية، ويبدو من تفاصيل الزيارة حسب راوية عبد الوهاب أن المودة والاحترام كانت طابع العلاقة بين الرجلين.
والشاهد أن نميري حلف بالطلاق لعبد لوهاب لتأكيد أنه لا يملك «80» جنيهاً مصرياً لشراء لبسة شبيهة بلبسة أنيقة كان يرتديها نميري عند الزيارة، وأبدى عبد الوهاب إعجابه بها.
وهذه شهادة جديدة تقدمها البروفيسور فاطمة عبد المحمود وزيرة الرعاية الاجتماعية في عهد مايو، تفيد أن نميري كان أكثر ما يكرهه استغلال الوزير لسلطاته ومحاولته التميز عن الشعب.
وتكشف في حوار صحفي عن تجربتها في حقبة مايو، أن نميري أعفى وزيراً من حقيبته، بسبب تفاح قدِّم ضمن وجبة في خطوبة ابنته وكان نميري حاضراً فأقاله فوراً في اليوم التالي.
ونفت بشدة أن يكون نميري قد عنَّف وزيراً لدرجة الاعتداء، إلا أنها أكدت أن نميري رفض في إحدى المرات الدخول لمنزله بسبب تغيير عفشه.
والنموذج الأخير لطريقة تعامل نميري مع وزرائه يقدمه الأستاذ بدر الدين سليمان الذي شغل عدة حقائب وزارية في عهد مايو. يقول الأستاذ بدر الدين: بعد ظهر يوم الجمعة الموافق 12 أكتوبر 1975م، حضرت لمكتب الرئيس نميري في القصر الجمهوري قبيل التوقيع على اتفاقية التنقيب عن البترول مع شركة شيفرون الأمريكية، لأخذ موافقته وتفويضي بالتوقيع، لكن نميري أبلغني عن عدم ارتياحه لعبارة كلمة «اقتسام الإنتاج» الواردة في الاتفاقية، وقال إنه يخشى من أن كلمة اقتسام تفيد تساوي الأنصبة بين المتقاسمين. وهذه الاتفاقية على غير ذلك، فنصيب السودان فيها أكبر كثيراً من نصيب الشركاء الآخرين.

كيف تم حل هذا الخلاف؟
يجيب الأستاذ بدر الدين: كان الأستاذ فيصل محمد عبد الرحمن وزير الدولة برئاسة الجمهورية آنذاك حاضراً هذا الحديث، فطلب منه الرئيس نميري الاتصال بالبروفيسور عبد الله الطيب والاستفهام عن الكلمة المناسبة للدلالة على أنصبة غير متساوية للشركاء. وجاءنا الأستاذ فيصل محمد عبد الرحمن متهللاً بعد برهة من الزمان، ونقل لنا أن البروفيسور عبد الله الطيب لا يرى في كلمة «اقتسام» معنى الأنصبة المتساوية بين المتقاسمين، ولكنه يفضل الأخذ بكلمة «القسمة» فهي الأبلغ في الدلالة على الأنصبة غير المتساوية. وذكرنا البروفيسور عبد الله الطيب بالآية الكريمة «وإذا حضر القسمة أولى القربى واليتامى والمساكين فأرزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً» «الآية رقم «8» من سورة النساء». وكان الشاهد أن القسمة في الآية الكريمة تشير إلى قسمة الميراث بين الوراثين وأنصبتهم فيه غير متساوية شرعاً.

لمشاهدة التقرير الأول :تعلمجي الكلية الحربية لنميري: أرى فيك مستقبل السـودان
[/JUSTIFY]

تقرير: محمد الشيخ حسين
الصحافة

‫2 تعليقات

  1. أسأل الله ان يتقبله قبولا حسنا ويجعل الجنة مثواه…
    كان رجلا سودانيا بحق.