جعفر عباس

حسافة على الفصاحة!

[ALIGN=CENTER]حسافة على الفصاحة! [/ALIGN] قرأت مقالا للأستاذ فهمي هويدي قبل أعوام كلامه فحواه أن اللغة العربية في منطقة الخليج بدأت تتراجع وتتنازل حتى على مستوى المحكي منها أمام الألسن الأجنبية، ولاشك أن عامية الخليج تخالطها عجمة ولكن ليس بدرجة تجعلها “ظاهرة”، وليس بأكثر مما هو حادث في أقاليم الوطن العربي الاخرى، وبوصفي خليجيا بالتجنس والتكلس (بفعل الرطوبة)، فأنني استطيع أن أقول، إن الكثيرين يحسبون أن العامية الهجين التي يتخاطب بها أهل الخليج مع العمالة الآسيوية، هي اللسان العامي الأصلي لهم، وكنت في بداية عهدي بالخليج أعاني الأمرين عند تعاملي مع سائقي سيارات الأجرة الآسيويين، يقف الواحد منهم قبالتك ويمد رأسه ويسألك: بازار جاييقا؟ أأنت ذاهب إلى السوق؟ فتجيب بنعم فيصيح فيك: جلدي بابا، أي أسرع، ولتقريب الصورة أكثر فأنني استعين بمقاطع من المعلقة الهندية (التي ظلت متداولة عبر الإنترنت على مدى سنوات)، وفي هذا العمل الشعري الملحمي الذي سأورد منه مقاطع قصيرة منه يحاكي عامل هندي معاناته مع الكفيل: انا أسمي كومار أتيق.. أخو انت واللا صديق.. هندي انا واللا رفيق.. بلد انا هندي عريق (تستخدم كلمة رفيق للنداء على الاسيويين في منطقة الخليج ولا يعني هذا انهم بعثيون او شيوعيون).. بابا انا شيبة كبير.. ماما انا مريض كثير.. أخو انا كلو صغير.. عشرة سنة شغل هنا.. ما في شوف أهلي أنا.. اتنين سنة ما في فلوس.. كفيل يقول بعدين نشوف.. والله حرام لازم فلوس.. مسلم أنا ما في (لست) هندوس.. لازم أنا في روح بلد.. سوي زواج جيبو ولد.. كفيل يقول: هادا بلد.. مافي زواج مافي ولد.. كفيل أنا كرشة متين.. يمكن أكل إلهام شاهين.
ولدينا في السودان لغة عربية مكسرة ، تعتبر لغة الآسيويين في الخليج مقارنة بها فصيحة جاهلية، فقبائل جنوب السودان مثلا قامت بفبركة لغة عامية محكية قوامها العامية العربية كأداة للتخاطب فيما بينها واسمتها “عربي جوبا” على اسم كبرى مدنهم.. يأتيك ابن الجنوب ويقول لك: أنا أكوك، وعليك أن تتلقاه بالأحضان وتقول له “أنا كمان أخوك”. وأهلي النوبيون في شمال السودان، بعد أن اخضعوا للتطهير العرقي واللغوي اصبحوا أقل عجمة ولكن كان لسان أمي بالذات ميئوسا منه، وعلى عهد المرحلة الابتدائية في جزيرة بدين النوبية في شمال السودان، كان المدرس مثلا يسأل: اسمك ياولد؟ فيكون الرد: تاها مستفى أبد القني (طه مصطفى عبد الغني)،
ويعاني حرفا الظاء والضاد مع أهل الخليج الذين يستبدلون هذا بذاك ويتحدثون عن ابوضبي (أبوظبي) وشهر رمظان (رمضان)، وفي كتب التراث أن أبو هريرة رضي الله عنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: ما قولك في رجل ظحى بضبي (ضحى بظبي)؟ وعامية الخليج فيها من المفردات غير العربية مثل ما في العاميات العربية الاخرى أو أقل قليلا، ولكنك تحتاج إلى خبرة كي تفهمها، لكن إياك أن تحاول فهم اغنيات ميحد حمد او الغناء البدوي بشكل عام كي لا تصاب بعقدة! وذات مرة قال لي زميل قطري في العمل وهو يتهالك على كرسي مريح وبصوت يقطع نياط القلب: فيني النودة، وحسبت أن النودة تلك من أمراض القلب فطلبت له الاسعاف وأدركت بعدها أن النودة هي النعاس، وكلمة “خير” تعني في الخليج عكس معناها القاموسي المتعارف عليه فكلما تعارك شخصان توعدا بعضهما بعبارة: يصير خير والمقصود منها “لن ترى مني إلا الشر”. واذكر أنني عام 1983 أقوم بالترجمة الفورية في مؤتمر أقليمي في دبي نظمته هيئة “هابيتات” التابعة للامم المتحدة وشاركت فيه وفود من جميع الدول العربية (جنيت ثروة طائلة من ذلك المؤتمر بالأوانطة ولكن بالحلال لأن معظم الوفود جاءت للفسحة وللحصول على بدل السفر والمهمة الرسمية: والله نعتذر عن تقديم مداخلة حيث انني اصبت باسهال لم يمكنني من إعداد ورقة.. زوجة رئيس الوفد الجديدة منعته من الحضور فأتيتكم على عجل ولن أقدم ورقة ولكنني سأستمع للآخرين.. وهكذا تقاضيت مبالغ مهولة نظير عدم ترجمة عدة جلسات) المهم قدم ممثل المملكة المغربية ورقة حسنة الاعداد وبقراءة سليمة ساعدتني على ترجمتها بسهولة، وبعد أن فرغ منها طرح أحدهم عليه سؤالا مهما فانطلق صاحبنا المغربي كالمدفع الرشاش ولكن بالعامية المغربية، وجلست في كابينتي الزجاجية أحدق في وجوه الحضور في بلاهة من دون أن يفتح الله عليّ بكلمة فأشار إليّ رئيس المجلس وكان كنديا بأنه لا يلتقط شيئا على سماعة أذنه، وهنا قلت لغير العرب بالانجليزية عبر المايكرفون: أنا مش فاهم حاجة خالص، فانفجروا ضاحكين ورفع الرئيس الجلسة وتقدم نحوي ليعاتبني باعتباري مستهبلا ولكن اعضاء الوفود غير المغاربية أكدوا له انهم ايضا طرش في الزفة . ولم يصدق الرجل أن تكون الفوارق بين العاميات العربية شاسعة بتلك الدرجة فخاطبت من حولي بقولي: لولاكم كنت أكون مقنب فوق عنقريب في خشم بيتنا وأكون خاتي كراع فوق كراع ..) وحملق الجميع في وجهي منذهلين رغم أنني قلت بالعامية السودانية : لولاكم لكنت جالسا (مقنب) فوق سرير(عنقريب)، امام (خشم) بيتنا واضعا (خاتي) رجلا فوق رجل (كراع فوق كراع). وعندها فقط اقتنع الكندي بأنني لست مستهبلا واقتنعت بدوري باستحالة تحقيق الوحدة العربية.. أي أنني سبقت العقيد القذافي إلى ذلك الاكتشاف.
*(حسافة بالعامية الخليجية تعني “وا أسفاه”)

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com