تحقيقات وتقارير
اشكاليات الفكر السياسي السوداني
ثانياً: العلوم السياسية أي البحث في الظواهر السياسية الجزئية العينية والقوانين الموضوعية التي تضبط حركتها (على سبيل المثال دراسة مشكلة الديمقراطية في السودان من 1965 إلى 2008م، دراسة قانوني المشاركة والصراع).
ثالثاً: الايديولوجية (النظرية السياسية أو المذهب السياسي) وتتضمن مجموعة الحلول النظرية للمشاكل التي يطرحها واقع معين مكاناً وزماناً والتي تتضمن الغايات البعيدة للعمل السياسي (مثلاً الايديولوجية الليبرالية تتضمن الديمقراطية الليبرالية كحل لمشكلة السلطة، الرأسمالية كحل للمشكلة الاقتصادية والعلمانية كحل لمشكلة العلاقة بين الدين والدولة).
رابعاً: النظم السياسية أي مجموعة من القواعد الوضعية (القانونية) التي تحكم تطبيق مجموعة من الحلول في واقع معين (مثلاً النظام المايوي).
وهنا نعرض لبعض اشكاليات الفكر السياسي السوداني طبقاً للتمييز السابق بين الدلالات المتعددة لمصطلح فكر سياسي. والحديث هنا عن الفكر السياسي السوداني ككل ممثلاً في الاسهامات النظرية والتطبيقية لجملة المفكرين السياسيين السودانيين والاحزاب السياسية السودانية ككل، لا عن مفكر سياسي سوداني معين او حزب سياسي سوداني معين.
فعلى مستوى الفلسفة السياسية فان الفكر السياسي السوداني يعني المباديء السياسية (المفاهيم الكلية المجردة) التي يضعها أو يلتزم بها المفكرون السياسيون السودانيون والاحزاب السياسية السودانية، هذه المفاهيم استمدها الفكر السياسي السوداني من مصادر متعددة كالفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة (الليبرالية والماركسية) أو الفكر الاسلامي (المذاهب السياسية الاسلامية) أو الفكر العربي الحديث (القومية) أو الواقع الاجتماعي السوداني (القبيلة والطائفة).. واهم اشكاليات الفكر السياسي السوداني نمط التفكير الاسطوري) للمفاهيم والفلسفات السياسية بدلاً من اتخاذ موقف نقدي قائم علي اعتبارها اجتهاداً انسانياً يتضمن قدراً من الصواب والخطأ بالتالي اخذ الصواب ورفض الخطأ.
أما على مستوى الايديولوجيا فان الفكر السياسي السوداني يعني مجموع النظريات (المذاهب) السياسية التي تتضمن الغايات البعيدة للعمل السياسي السوداني، وأهم اشكاليات الفكر السياسي السوداني على هذا المستوى ان العمل السياسي على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي يتعارض مع وينحرف عن النظرية بدلاً من ان يكون في خدمتها.
أما على مستوى العلوم السياسية فان الفكر السياسي السوداني يعني دراسة الظواهر السياسية التي يطرحها الواقع السوداني في زمان ومكان معينين. وأهم اشكاليات الفكر السياسي السوداني على هذا المستوى.
ان السياسة السودانية في الغالب سياسة غير علمية فلا تنتهج الاسلوب العلمي في التفكير والحركة، (بالتالي هي اقرب للاسلوب الخرافي كنقيض للأسلوب العلمي) ويعني الاسلوب العلمي التخطيط والذي يعني أولاً: عدم توقع تحقق الغايات بدون تدخل إيجابي وبالتالي تخرج السلبية والتواكل التي تميز السياسة السودانية من عداد الاساليب العلمية وثانياً: ضرورة سبق الاحداث قبل وقوعها طبقاً لمخططات شاملة ومرحلية تحكم حركتنا في مواجهة الظروف، وعلي هذا تخرج التجريبية والمغامرة التي تميز السياسة السودانية من عداد الاساليب العلمية، فالاسلوب العلمي في السياسة يتضمن النظرية والاستراتيجية والتكتيك ويتحقق عندما تتوافر العلاقة المتبادلة بينهما أي ان يكون كل عنصر مكملاً وفي خدمة العنصر الآخر وهو الأمر غير المتوافر في السياسة السودانية حيث تتعارض هذه العناصر مع بعضها البعض.
كذلك نجد ان السياسة السودانية تتميز بالقفز مما هو كائن إلى ما ينبغي ان يكون دون التدرج من مما هو كائن، إلى ما هو ممكن، إلى ما ينبغي ان يكون.
مشكلة التخلف الديمقراطي: تمثل مشكلة التخلف الديمقراطي البعد السياسي لمشكلة التخلف الحضاري، وتتمثل في: انعدام أو ضعف التقاليد الديمقراطية بفعل الاستعمار وما صاحبه من تخلف ثقافي ومادي، إضافة الى تطبيق المفهوم الليبرالي القائم على سلبية الدولة بالنسبة للممارسة الديمقراطية، وكان حصيلة هذا فشل تطبيق الديمقراطية، ومن اثار هذا الفشل جاءت ظاهرة الانقلابات العسكرية التي تكاد تكون المرحلة التالية لمرحلة التحرر من الاستعمار على مستوى العالم الثالث كله. كل هذا ادى إلى شيوع العديد من المظاهر السلوكية والفكرية السياسية السلبية منها:
? السلبية السياسية ومظاهرها العزلة عن السلطة والشك فيها والسلبية إزاء ما تدعو إليه.
? الاشاعات التي هي محاولة لتبادل العلم بالواقع ومشكلاته في ظل نظام يحاول الحيلولة دون هذه المعرفة ويساعد على دعمها شيوع انماط التفكير الخرافي القائم على قبول الافكار دون التحقق من صدقها أو كذبها بأدلة تجريبية.
? ظاهرة النفاق الذي يعوق تطور المجتمع بما هو تزييف الواقع الاجتماعي ومشكلاته بالكذب في الاخبار عن المعرفة بهذه المشاكل، وتزوير الحلول الممكنة لهذه المشاكل بالكذب في الاخبار عن الآراء التي تتضمن حلول هذه المشاكل، وارباك العمل الاجتماعي بالكذب في الاخبار عن المقدرة على العمل.
أما على مستوى النظم السياسية فان الفكر السياسي السوداني يعني النظم السياسية التي تعاقبت علي حكم السودان، وأهم اشكاليات الفكر السياسي السوداني علي هذا المستوى تتمثل في الخلط بين الدولة بما هي مجموعة السلطة (الحكومة) والارض (الوطن) والشعب على مر الازمان، والنظام بما هو السلطة (الحكومة) في زمان ومكان معين، هذا الخلط يتمظهر في عدة ظواهر اهمها شيوع معيار الولاء بدلا من الكفاءة لدى النظم المختلفة وعدم تمييز المعارضة بين استهداف الحكومة واستهداف مؤسسات الدولة.
الاحزاب: لم يعرف الواقع السياسي السوداني في الغالب سوى الاحزاب ذات الشكل الليبرالي التي هي المعادل السياسي للنظام الرأسمالي القائم على المنافسة الحرة من اجل الربح، أما عن علاقتها بالواقع الاجتماعي فإنها بدلاً من ان تكون طلائع للتغيير الاجتماعي فتجسد في داخلها الوحدة الوطنية وتنفتح على الابعاد القومية والعالمية فإنها اصبحت إنعكاساً لواقع التخلف القومي، فاصبحت تعبيراً سياسياً عن الانغلاق القبلي والطائفي.
تغيير الواقع السياسي السوداني:
إن التغيير الواقع السياسي السوداني لا يتم بالقفز على هذا الواقع، بل بالتدرج بالانتقال به مما هو كائن الى ما ينبغي ان يكون، علي هذا فان التغيير يتم عبر مرحلتين: الأولى هي مرحلة التغيير الفكري: وهي مرحلة محاربة التفكير البدعي شبه الخرافي وشبه الاسطوري الذي يميز الفكر السياسي السوداني، ونشر التفكير الاجتهادي العلمي والعقلاني كشرط ذاتي لتحقيق التقدم السياسي للمجتمع السوداني، كما انها مرحلة الانتقال مما هو كائن إلى ما هو ممكن فان كان ما هو كائن سياسياً هو تعاقب نظم استبدادية وديمقراطية ليبرالية، فان الانتقال بهذا الواقع مما هو كائن إلى ما ينبغي ان يكون يتم بالممكن، والممكن السياسي له اشكال عديدة منها مساهمة الجميع في حل مشكلة التخلف الديمقراطي بتشجيع الممارسة الديمقراطية على اوسع نطاق. وان تكون وسائل ممارسة الديمقراطية إحدى الخدمات التي تقدمها الدولة (تشجيع العمل الاجتماعي ودعمه وتسهيل ممارسته..)، وتوسيع هامش الحريات المتاح في النظم الاستبدادية، والعمل علي مقاومة الاستبداد بالوسائل السلمية (الجهاد المدني) وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، والحوار بين التيارات المختلفة من اجل الالتقاء على ما هو مشترك من ثوابت الأمة، وتخليص الديمقراطية من حيث هي نظام فني لضمان سلطة الشعب ضد استبداد الحكام من الليبرالية (أي من العلمانية والرأسمالية والفردية..) وذلك بالديمقراطية ذاتها لا بإلغاء الديمقراطية. مع وجوب ملاحظة ان الديمقراطية كنظام غير مقصورة على نموذج واحد ومع وجوب مراعاة الظروف الخاصة بكل مجتمع.. أما الثانية فهي مرحلة التغيير السياسي وهي مرحلة الانتقال مما هو ممكن الى ما ينبغي ان يكون. وهي مرحلة تطبيق النظم التي تجسد القيم السياسية الايجابية وتطويرها، والتي تلغي المظاهر السياسية السلوكية والفكرية السلبية بإلغاء مصدرها المتمثل في التخلف الحضاري بالاحتكام الى الجماهير ذاتها. ونلاحظ ان السياسة السودانية ظلت تحاول دائماً الإنتقال إلى المرحلة الثانية (التغيير السياسي) دون ان تكمل انجاز المرحلة الأولى (التغيير الفكري).
د. صبري محمد خليل :الراي العام[/ALIGN]