بين أم ريكـا و أمريكا
هم جمع من الأطباء أعضاء الأسرة الطبية السودانية بالإمارات الذين يعتبرون وجها مشرقا لبلادنا .. والذين تجمعوا من مناحي شتى بالإمارات لتقديم كل عون طبي ممكن للسودان .. حيث كانوا حضورا في بيت سفير السودان بالإمارات السيد حاج الفكي هاشم ونائبه السيد عصام متولي ومدير شركة الخطوط الجوية السودانية وضيف شرف اللقاء الطبيب الإنسان أمين الجوهري أختصاصي جراحة الأطفال الذي قام بعملية فصل التوأم السوداني .
وقد كان اللقاء أنيقا بوجود والدي التوام ( احمد وساره ) والتوأم ( حسن وحسين ) الذين زينا المحفل بحركتهما التي لم تنقطع وكأنها يؤكدان تتحررهما من الرابط الذي كان يقيدهما سويا الى عالم فسيح من الحركة والتنقل الحر .. وهما بين الضحكات واللعب البريء تارة يحتميان بالدكتور( الجوهري ) وتارة بالأب وكأنهما يقدمان نوعا من العرفان للرجل .. أوكأنهما أرادا أن يضعا ( آكشن ) للحوار .
ولقد دعيت الى هذه الجلسة كمقدم للسهرة التي شدتني شدا نحوها وكأنني في حلم لا يتكرر ولن يتكرر .. فقد حكى الطبيب كل شيء عن العملية وكل المراحل التي مرت بها .. وتحدث الأطباء بإستفاضة حول هذه العمليات الإلتصاقية ونحوها ومدى تعقيد عملية الفصل التي نتج عنا جهازين تناسليين بكامل الأعضاء ..
ولكن القضية ليست بهذه البساطة التي تستبين للعيان فقد بدأت القصة كلها من خلال سؤال واحد .. ومهما أوتيت أو أوتيتم أنتم من حسن التخيل وسعة الأفق لن تستطيعوا معرفة السؤال الذي كيّف وحور كل هذه الظروف لتتابع عملية الفصل من مرحلة الى لمرحلة حتى تكلل عملية الفصل بالنجاح ..
نعم هو سؤال واحد .. جاء من رجل بسيط يعيش في قرية نائية من القرى التابعة لمحلية ام روابة بولاية شمال كردفان .. هو رجل لم ينال حظه من العلم وفق الوسط الذي يعيش فيه في قريته التي تسمى ( أم ريكا ) والتي ما كان ليمكن لأحد من أن يسأل عنها أبدا .. والتي ما كان لها أن ترى النور أبدا إلا مع هذا التوأم ..
فقد حمل والدهما توأمه الى الشيخ عبد الرحيم البرعي ليسأله سؤالا واحدا هو: ( هذا التوأم شخصان ملتصقان .. ماذا أفعل إن مات أحدهما قبل الآخر .. هل أدفن الحي مع الميت أم أبقي الميت مع الحي ) ؟؟؟ سؤال يحتار معه العقل كثيرا .. وتصعب الإجابة عليه في كل الظروف .. اللهم إلا أن نتخيل مجزرة إنسانية غير محمودة العواقب في تلك البقعة النائية من العالم ..
وهنا قال الشيخ لوالد التوأم (لقد واجهت في حياتي أعقد الأسئلة وأكثرها صعوبة لكنني لم يصادفني سؤال كهذا، ولكن أنتظر أياما لأن السيد رئيس الجمهورية سيزور المنطقة للمشاركة في مهرجان للزواج الجماعي ودعنا نعرض المر عليه لعلنا نجد عنده الإجابة) ..
وبناءا على ذلك وجه السيد رئيس الجمهورية بإرسال التوأم لمستشفى الشرطة توطئة للبت في أمرهم من الناحية الطبية .. ومن هناك بدأت رحلة العلاج التي إنتهت بفصلهما في الإمارات .. برعاية الأسرة الطبية السودانية بالإمارات ورعاية كريمة من الشيخ محمد بن زايد آل نهيان .
لكن أطرف ما في الحكاية أن والد التوأم لاحظ أننا كنا على عجلة من أمرنا فسألني عن سر هذه العجلة وقد تعود الناس في منطقته على نوع من التأني والتراخي في كل شيء .. وحالما إنتهينا من الحوارات جلست إليه وأخبرته أن هناك مباراة للبرازيل في كأس العالم وأغلب هؤلاء يودون متابعتها ن لأهميتها .
إستغرب الرجل وبهت ، وربما سأل نفسه ( هل يمكن لهؤلاء الأطباء المحترمين الذين شاركوا في هذه العملية الجراحية التي إستمرت 17 ساعة، أن يكون همهم متابعة مباراة في كرة القدم ) ؟؟ .
لكنني عاجلته بالإجابة قبل أن يسأل وهنا أنداح الرجل ليسألني عن البرازيل وماذا تعني .. وتحرك بنا الحوار الجانبي حتى وصلنا الى أمريكا .. وشرحت له أحداث سبتمبر التي أقسم أنه لم يسمع عنها .. وسألته عن أحداث دارفور وقضية الجنوب .. وكأن الرجل يرمقني بنظرات أكاد أجزم أنه تخيل أنني معتوه ..
خلاصة الأمر أن الرجل وثق بي بعد هذا الحديث الودود ، ووثق في حديثي وصدق كلماتي وأخذ يسألني أسئلة تلقائية، لرجل بسيط في هذه الكون المتلاطم .. وحدثني عن زيارته لأول مرة للأمارت وكيف أنه تفاجأ بهذه الدنيا العجيبة .. وكيف أن رحلته الأولى بالطائرة كانت حدثا لن ينمحي من ذاكرته .. بل أن الرجل ضحك كثيرا حينما تخيل أنه عودتع بعد العملية الى (أم ريكا) وكيف حدث أهلة بمشاهداته العجيبة .. بل كيف كان الإستقبال حاشدا للدرجة التي جعلت الأمر عنده وكأن شيئا ما يحدث أسفل الطائرة .
المهم أن الرجل وبعد أن رأى هذا الإهتمام والحديث العلني عن المشاهدة .. سألني بعد أن تنحى بي جانبا عن أمكانية زيارة أمريكا .. وهل هي بعيدة من هنا ؟؟ وهل أهلها يتحدثون العربية ؟؟ أسئلة كثيرة لا أود أن أخوض فيها ولكن ما أود أن أقوله أنها أسئلة طبيعية للرجل ظل العالم كله أمام ناظريه تلك الرقعة المحدودة من الجغرافية التي عاش فيها والتي لم تتجاوز أم ريكا ..
ولو كنت مكانه لكانت كل الجغرافية عندي ستعني بالفعل أم ريكا وما جاورها من حلال ومناطق قد يراها متناثرة وهي كل العالم عنده .. وهذا أخوتي صدق مع النفس لا يدانيه أي صدق آخر .. بل أن حياة كهذه لهي أفضل ألف مرة من حياة مليئة بصخب الحياة ومغالباتها ..
وهاهو الرجل وبكل بساطته يلتقي رئيس الجمهورية، ويلتقي أكبر الأطباء في العالم وتتم عملية فصل أبناءه ويزور الإمارات ويدخل معه قرية أم ريكا في صفحات التاريخ .. ويستدعي التاريخ نحوه عنوة وإقتدرا . بل يدخل آمنة ( الداية) في موسوعة الحذاقة الطبية إذ لم يشهد العالم كله ولادة توأم ملتصق إلا على يدها .
نعم دخلت ( أم ريكا ) التاريخ حينما تبرع نفر كريم من الأطباء السودانيين ببعض الدول الأوربية للحضور والمشاركة في عملية الفصل .. وكذلك فإن كثير من الجهات الطبية التي أرسلت لها الصور والتقارير قد شاركت بإبداء رأيها الطبي في الأمر .. ومتابعة العملية من على البعد عبر أجهزة الفيديو التفاعلية .
ولم ينتهي الأمر في هذه المرحلة .. فقد قامت الخطوط الجوية السودانية بنقل التوأم من الإمارات الى مطار الخرطوم … ومن مطار الخرطوم الى قرية ( أم ريكا ) عبر طائرة هيلوكوبتر حديثة ومجهزة هي جزء من الطائرات التي إستجلبتها الخطوط الجوية السوداني للإستعانة بها في عمليات الإنقاذ والإسعاف ..
أما الحضور الرسمي والشعبي الذي كان في إستقبال التوأم بقرية ( أم ريكا ) فقد كان حدثا مشهودا ومهيبا ،إصطفت له كل القبائل والفرقان .. حيث دقت الطبول والنحاس في مشهد مهيب لم تراه المنطقة من قبل حتى أصبحت (أم ريكا) قبلة لوسائل الإعلام المختلفة المحلية والعالمية .. بل أن التوأم قد تكفل بهما رئيس الجمهورية مدى الحياة وتكفل كذلك كثيرون من أهل الخير والعطاء بجوانب أخرى .. ومازالت تستقبل أم ريكا حتى يومنا هذا جماعات من الأطباء والوفود الأجنبية .
بعد ذلك الحوار جلست أسأل نفسي كثيرا هل ترى يتمكن لهذا الرجل بكل هذه البساطة من يزور أمريكا ؟؟ هذه الأمنية الخفية التي نمت في أعماقه من مجرد حديث عابر بيننا .. وقد تهيئت له الدنيا كلها بسؤال بسيط أفضى الى هذه النقلة الواسعة التي كللت بفصل إبنيه ..
؟
وختاما نقول تصوروا أن هذه الأم قد ولدت طفليها الملتصقين تحت شجرة في قريتها وبواسطة قابلة ( داية ) محلية عادية بخبرة تقارب الثلاثين عاما .. هذه الولادة العادية قد حيرت كل الأطباء الذين تحدثوا عن إعجاز لا يمكن تخيله لمثل هذه العمليات التي تحتاج الى تقنيات عالية ..
التحية للداية (( آمنة )) التي أستحقت كل هذا الحديث الطيب من الأساتذه الأطباء ..
لتحية لها وهي لاتعلم عن هذا الحديث شيئا .. التحية لها وهي لا تعلم أنها قد قامت بعمل كبير هز المراكز العلمية هزا .. وقد علمت أن هناك وفدا طبيا سيزور المنطقة وسيلتقى هذه الداية . وبعدها علمت أن رئاسة الجمهورية وشركة الخطوط الجوية السودانية قد تكفلا برحلة جح للأراضي المقدسة .. وربما تكون هي غاية أمنياتها العذبة .
هكذا حق لنا أن نقول أن نقول سبحان الله الذي يفتح أبواب الخير بكلمة واحدة .. وشتان بين أم ريكا وأمريكا ..
( وسبحان الله مسبب الأسباب ) ..
صلاح محمد عبدالدائم شكوكو
shococo@hotmail.com
والتحية لك أنت أخي صلاح الذي جعلتنا نعيش دقائق عزة وفخر لك سوداني ، فخر بإعلامنا ، فخر بطبنا ، فخر بداياتنا ، بل فخر بكل من ينتمي لهذا الوطن .
( وسبحان الله مسبب الأسباب ) ..
من أروع ما قرات
سبحان الله
مقال موفق ياأستاذ
شكرا جزيلا