[ALIGN=CENTER]المرحلة الكوستاوية [/ALIGN]
خلال فترة الدراسة في مدرسة وادي سيدنا الثانوية أصبحت كوستاويا، أي تعمق انتمائي إلى مدينة كوستي التي كانت عائلتنا تقيم بها منذ أوائل الخمسينيات، وحيث نشأ معظم إخوتي وعمل بها أعمامي وأقاربي.. كانت كوستي في ذلك الزمان جميلة ونظيفة، وصغيرة، وكان كل شيء فيها مزدهرا.. المشاريع الزراعية والسوق بوجه عام والرياضة والعمل الوطني.. وكان بيتنا في “الحلة الجديدة”، وعلى طريق – لسوء حظنا – كان يؤدي إلى منطقة “الأنادي” وهي مجموعة من البيوت الطينية تباع فيها البيرة الشعبية المسماة بالمريسة التي تصنع من الذرة بعد تزريعها، كانت الإنداية تقع على أطراف المدينة، وكانت المريسة مصرحا بها في الاندايات، بل كان الإنجليز وخلال فترة حكمهم للبلاد، يوفرون للأنادي دوريات من رجال شرطة السواري “راكبو الخيل”، يطوفون بأرجائها لحفظ النظام والتحقق من أنها تفتح وتغلق أبوابها في أوقات معلومة، يطلق عندها الشرطي صافرته.. يعني الحكومة كانت تقوم بدور الحكم: صافرة تعلن بدء الشرب وصافرة تعلن نهايته.. والنتيجة صفر للطرفين.. والمريسة كما هو معلوم!!! تحتوي على نسبة عالية من البروتين لأن كل برميل مريسة يحتوي على نحو مليون ذبابة.. من النوع الحميد الذي لا يسبب الدوسنتاريا! وهكذا كان السكارى يمرون أمام بيتنا في أول كل مساء، فلم يجد أبي مناصا من تربية الكلاب لمنعهم من الاقتراب من بيتنا خاصة، ومن المعروف ان المريسة تنشط المثانة، كما انها لا توصل شاربها الى مرحلة السكر إلا إذا شرب نحو ثلاثة جرادل منها، اي نحو 12 لترا! وبكمية كهذه في المثانة تكون في حالة هيجان دائم، ولابد من كلب لحماية الجدران من التلوث، وكان أجمل كلابنا واحدا أسماه أهل الحي “الاستاذ” لأنه كان رشيقا ولا ينبح إلا على المبهدلين.. يمر أمام بيتنا شخص حسن الهندام فلا يتحرك الكلب، ولكن يا ويل من كانت ملابسه رثة ويمشي مترنحا.. وكان كلبنا الاستاذ “مغرورا وواثقا من نفسه” وينبح مرة واحدة فقط، ولكن النبحة تلك كانت كفيلة بتنشيط مثانة شخص مضرب عن شرب السوائل طوال أسبوع كامل! وكنا بحكم صلة كوستي بالنقل النهري والسكة الحديد نعيش في بحبوحة من المنقة والموز والشمام والسمك البلطي والقنقليز وفول الحجات (هو الفول السوداني الذي يباع بقشرة رمادية وأسماه الناس بفول الحجات لأن نساء قبائل الفلاتة من غرب افريقيا كن متخصصات في بيعه وفي السودان نسمي كل من ينتمي الى الفلاتة حاج وحجة.. ربما لأنهم أصلا قدموا الى السودان بنية عبوره لأداء الحج، ومنهم من أدى الفريضة وطاب له المقام في السودان ومنهم من اكتسب لقب حاج بالأوانطة من دون أن يعبر البحر الأحمر).
كانت بمدينة كوستي دار واحدة للسينما، وكنا نقيس جودة الفيلم المعروض فيها بالنظر إلى المنطقة المحيطة بها فإذا كان حولها خلق كثير “أنس الموضوع”.. أما إذا لم تكن حولها طوابير من البشر فمعنى ذلك أن الفيلم هوليوودي من النوع الممتاز.. وكانت هناك دار الرياضة.. وهي الاسم الذي كان يطلق على ما يسمى حاليا بـ”الاستاد”، نحن أحياء الحلة الجديدة والرديف والدريسة كنا نشجع ناديي الرابطة والوطن وأهل حي المرابيع كانوا يشجعون المريخ.. والعاملون في السكة الحديد والنقل النهري كانوا يشجعون نادي السكة الحديد وكان وقتها من أقوى الفرق، ولاحقا ظهرت فرق مثل الهلال، وأحياء مثل “النصر”.. واستاد كوستي “شؤم” ففي يوم افتتاحه مات لاعب اثناء أدائه المباراة، كان جارنا الحيطة بالحيطة وبكاه أبوه محمد سرور حتى كف بصره، وبعدها بسنوات انهارت مساطب الاستاد ومات وجرح كثيرون.. ولكن مستوى كرة القدم في كوستي كان عاليا وكانت الفرق الكوستاوية تهزم أندية ام درمان وأذكر ان منتخب مدينة كوستي شرشح الفريق القومي السوداني في مباراة تجريبية.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com