جعفر عباس

سيرة وطن في مسيرة زول (2)

[ALIGN=CENTER]سيرة وطن في مسيرة زول (2) [/ALIGN] حدثني أبي بأنه لم يكن قط راغبا في امتهان الزراعة. وكان شقيقه (عمي الطيب وكان اسما على مسمى وصاحب دعابة) يعمل في شركة جنرال موتورز في الإسكندرية، فقرر أبو العبس أن يسير في دربه، وتسلل هاربا مع صديق له وشقا طريقهما سيرا على الأقدام حتى وصلا أسوان في جنوب مصر بعد مسيرة شهر، وكان زادهما بعض التمر والشاي (ولكن كلما مرا ببلدة استضافهما أهلها للطعام والمبيت).. ومكث أبي في أسوان قرابة اسبوعين إلى أن بعث له الطيب تذكرة القطار، وانطلق أبي الى الاسكندرية وهناك أكرم أخوه الطيب وفادته عدة أيام ثم أتاه بتذكرة سفر وقال له: ادينا عرض أكتافك، أي عد إلى السودان، ولما طنطن أبي ونقنق محتجا ومبديا رغبته في البقاء في مصر اضطر الطيب (كما روى أبي) إلى صفعه “قلمين” وقال له ما معناه: أنت أصغرنا نحن الأشقاء الذكور الأربعة وعليك أن تحرس “العَقاب”، وهي بفتح العين تعني “الأهل والثروة”.. وغادر أبي الاسكندرية وقرر البقاء في القاهرة، ولكن أخاه الطيب سمع بالأمر فجاء وداهمه وسحبه من أُذنه وأركبه القطار ولم يغادر الطيب الرصيف إلا بعد ان انطلق القطار بأقصى سرعته.
لكن وبدلا من ان يعود الى بدين ليحرس “العقاب” الذي هو الإرث والعائلة، واصل أبي رحلته الى الخرطوم ونجح في الحصول على وظيفة بحار في بواخر مصلحة النقل النهري التي كانت تعرف باسم “الوابورات” وكان مقرها الخرطوم بحري (وفي عامية أهل الأرياف في مصر والسودان بحري تعني الشمال والصعيد يعني الجنوب)، وكان مولدي في مدينة الخرطوم بحري التي أسسها فقهاء نوبيون وأعرق أحياء المدينة تحمل اسمي حمد وخوجلي وهما من مشايخ النوبة.. وهكذا ولدت ناطقا باللغة العربية (والتي نسيتها تماما بعد قضاء سنتين في بدين عندما أعاد أبي العائلة الى جذورها لنلتحق بمدارسها).. كان ذلك في الأول من سبتمبر من عام… (اختلف المؤرخون حول سنة مولد سي. دي. أبوالجعافر فهناك من يقول إن ذلك كان بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وغيرهم يقول إنه كان في السنة التي وصل فيها الأمريكان الى القمر وفئة تزعم انه لم يكن قد تم تحديد أسماء وأرقام للسنوات عندما ولد أبوالجعافر).
أمي اسمها آمنة حامد شوكت، وقد يمثل هذا مفاجأة حتى لبعض أهل بدين الذين يعرفون عائلتنا جيدا، ذلك ان الاسم الشائع لجدي لأمي هو “فقير بحرية” وتعني “فقيه المنطقة الشمالية”، وكان رجل علم ودين ومعلما للقرآن.. وقباب أجدادي “المشايخ” لا تزال تزين حلة (حي) أب جاسي متوسطة المقابر.. نشأت وأنا أسمع ان جدي الأكبر اسمه شوقتي Shogatti ولسبب لا أعرفه صار شوقتي “شوكت” وهو اسم تركي لا يمكن ان تحمله عائلة نوبية عريقة، وخاصة أنه لم يكن للأتراك خلال حكمهم السودان مقر او ممثل في جزيرة بدين.. حي أب جاسي أيضا صار أبوجازة.. نتج كل هذا عن زمان كان فيه من يحسبون أنفسهم “عرب السودان” يحسون بأنهم أعلى شأنا من النوبيين “الرطانة” وفي عصور غياب الوعي بالهوية كان النوبيون يحسون بالدونية، وصاروا يعربون أسماء الأفراد والأماكن بطريقة جبر الكسور، فصار شوقتي شوكت وصارت عمتي فرين “فرحين” وصارت هولا خولة.. هذا تعريب قسري وتقديري معيب، فللنوبيين أسماء خاصة بهم مثل أرصد وأُرو وأرباب (وكلها تعني الرأس/ السيد) وساتي.. ولكن الأسماء النوبية كانت وما تزال أكثر شيوعا بين النساء: أليسا، دوانه، ودارا، وستونه ومياسة ومسكة وشيرا وهجلة إلخ.
ولأجدادي مسجد عتيق وعريق في حي أب جاسي، يعود الى عدة قرون، وبالتحديد الى فترة انتقال النوبيين من المسيحية الى الإسلام، ويسمي النوبيون المسجد “مسيد” وبما ان علماء النوبة هم من نشر الإسلام في السودان الأوسط، فقد انتقلت هذه المفردة معهم/ وما تزال مستخدمة لوصف المباني التي يتم فيها أداء الصلوات وتحفيظ القرآن.. وقد تركنا نحن أحفاد فقهاء مسيد أب جاسي المسجد القديم محتفظا بطابعه التاريخي وشيدنا مسجدا للصلاة بجواره يطل على ساحة العيد، وقمنا بإعادة بنائه بعد ان تهدم مؤخرا، ولك ان تتصور مقدار فرحتي بإعادة افتتاحه يوم الجمعة 28 مايو المنصرم (2010)

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com

تعليق واحد

  1. ابو الجعافر يا رايع ….لكن مااااااااااا وريتنا تاريخ الميلاد..مقالاتك بقتلينا ذى القهوة.. اذا ما قرأناها يجينا صداع.. وانت عارف الغربة وما ادراك ماالغربة ونارها.. تحياتى