الطاهر ساتي
« الغوغائية » .. وأثرها في حياة المواطن ..!!
** وبمناسبة المهمة وغير المهمة ، أحكي موقفا تختزنه ذاكرتي منذ زمان الديمقراطية الأخيرة وحملاتها الانتخابية التي كانت بنهج : الفانوس حرق القطية .. أذكر فيما أذكر أن زار قريتنا النوبية أحد المرشحين ، فذبحوا له من الذبائح ما استطاعوا اليها سبيلا ، ثم حشدوا له من الحشود ما استطاعوا اليها وصولا ، ثم أعدوا له منصة الخطاب ليخطب في الجمع الكريم الذي كان يتشوق لدعم يخرج من ثنايا الخطاب لصالح المشروع الزراعي ، حيث أزمة وقوده وغلاء اسبيراته و كثرة أعطاله ظلت ترهق كاهل المزارعين عاما تلو عام ، ولذلك استبشروا خيرا بمقدم هذا المرشح وانتظروا خطبته بفارغ الصبر .. فخطب فيهم خطبة عصماء ذات مفردات ترجمتها – الي الدارجية – بحاجة الي قواميس ومعاجم ، ثم ختمها بوعد مغلظ باقامة الحد على السكارى .. ثم ترجل عن المنصة وارتمى في مقعد فارهته ولف جسده بحزامها و غادر المكان تاركا غبار الفارهة يزكم أنوف الحشد .. ولم يتبرع للمشروع بفلس أو دينار ، و لم يأت بسيرته في خطابه ولو من باب الوعد غير الصادق .. أحد أبناء عمومتي – وكان سكيرا آنذاك – لم يكن متصالحا مع خطاب المرشح الذي يعد باقامة الحد على السكارى ، لذلك فرح لعدم تبرعه للمشروع ، فسأل زعماء الحشد شامتا وحائرا : شايف مرشحكم ده اختزل ليكم مشاكل مشروعنا الزراعي في قعر كأسي ، يعنى كدة خلاص المشاكل اتحلت ..؟؟
** وهكذا نجح السكير – بذاك السؤال التهكمي – في أبطال مفعول ندوة كاملة لحزب مكتمل .. لذاك السؤال الاستنكاري مغزى ومعنى كما تعلمون يا سادة يا كرام .. ويصلح مغزاه بأن تأخذه القوى السياسية – هذه الأيام – برنامجا انتخابيا ، ولو من باب : خذوا الحكمة من أفواه السكارى والمجانين .. بمعنى ، حين يسترق الناخب بسمعه الي خطاب المرشح – رئاسيا كان أو واليا أو برلمانيا أو تشريعيا – فانه يريد أن يسمع منه حلولا لمشاكله وعلاجا لقضاياه وبرنامجا واضحا يرفع وطأة المعيشة ورهقها عن كاهله .. فالمواطن الذي لايقرأ صحف الخرطوم ولايعرف في اذاعتها الا ما يطلبه المستمعون ، ليس بحاجة الي وعظكم وارشادكم ، وكأنه حديث عهد بالاسلام .. وكذلك ذاك المواطن الذي لايعرف مهام مراكز الدراسات الاستراتيجية ولم يسمع بهيومان رايتس وغيرها ، ليس بحاجة الي محاضرته عن حقوق الانسان وفق نظرية ماركس وغيرها .. هذا المواطن الأغبش يهبكم سمعه – هذه الأيام – مكرها ، ليسمع منكم عما ستفعلونه تجاه « مشاكله الشخصية جدا » .. !!
** حدثوه عن مدارس أطفاله ومصير سورها المنهار ، حدثوه عن معلم أطفاله و راتبه الذي لايدفع في الميعاد ، حدثوه عن المشافي وكيفية تقليل نسبة الوفيات بسبب التخدير ، حدثوه عن الضرائب والرسوم والجبايات وغيرها من الجبال الراسية على ظهره .. تلك هي قضايا الساعة التي يجب أن تطرحها خطب الساسة هذه الأيام ، في بلاد الدنيا والعالمين تسمى بالقضايا العامة ، ولكنها في هذا البلد الحبيب أصبحت « قضايا شخصية » .. فحدثوهم بحلول قضاياهم تلك ، وليس من العقل أن تتناسى نخبنا السياسية مثلا شعبيا نصه : « الزول بونسو بغرضو » .. فليحاضر بعضكم بعضا – في مجالسكم الخاصة وصحف الخرطوم – عن الشريعة والديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها .. أما محمد أحمد المغلوب على أمره في البوادي والأرياف وقاع المدائن ، فحاضروه – في ندواتكم – بما هو بحاجة اليه « الماء والنار والكلأ » .. والمواطن الذي يفتقر الي تلك ، لن يسمع غيرها ، فليسمعها منكم برنامجا انتخابيا .. هذا ما لم يكن المراد بالبرنامج الانتخابي أن تحاور النخب السياسية بعضها بعضا ، كحوار ..« الطرشان » ..!!
اليكم ..الصحافة-العدد 5975
tahersati@hotmail.com