زهير السراج
وداعا يا بلدى .. فقد غلبتنى الحيلة
* أنقل لكم هنا تجربة حقيقية عاشها أحد الأطباء في أكثر من مستشفى وسجلها بكل صدق وألم، أرجو أن نقرأها بتمعن حتى ندرك الكثير من الصعاب التى يعانيها الأخوة الأطباء والظروف القاسية التي يعملون فيها وتأملوا ما هو ما مكتوب بين السطور، وكما نقول.. (حلو الكلام من خشم سيدو)، وسيدو هو الدكتور خالد سيد محمود، فلنستمع إليه وهو يحكي لنا تجربته بكل صدق واخلاص.. وكان الله في عونه وعونكم !
* أنا طبيب حديث التخرج… تخرجت من جامعة عريقة خرجت الآلاف من قادة العمل الطبي في عاصمة سوداننا الحبيب… تتلمذت على أيدي كبار الأطباء في مستشفيات العاصمة المثلثة وأكملت فترة الامتياز بشهورها الستة عشر بكل محاسنها ومساوئها… ثم بعد ذلك تقاذفتني المؤسسات في سنة كبيسة ماديا ألا وهي سنة الخدمة الوطنية، إمتحنت خلالها الإمتحان المثير للجدل المسمى (إمتحان التسجيل الدائم) وتسجلت بحمد ربي وشكره كطبيب عمومي معتمد في السجل الدائم للأطباء بالمجلس الطبي السوداني… ثم بدأت فصلاً جديداً من حياتي العملية باحثاً عن ما يسد رمق طموحي الوظيفي وأملاً في وظيفة في مستشفى حكومي يوفر كل الرتب الطبية من أطباء الامتياز والعموميين والنواب والاختصاصيين طمعا في قليل من التوجيه مِن مَن هم أكبر منى وأكثر دراية، بدأت رحلة البحث عن وظيفة ليس من أجل العائد المادي فقط، فأنا و الحمد لله من أسرة مستورة الحال لا تعتمد علي في منصرفاتها المادية ولكنني بحثت عن وظيفة تكسبني المزيد من الخبرة في التعامل مع الحالات المرضية وبخاصة في مجال الطوارئ والإصابات، بحثت عن وظيفة أفتخر بها، في مكان أفتخر بأن أنتمي إليه و أعمل فيه… و كانت بداية المشوار…
* أجريت العديد من الإتصالات وحصرت المستشفيات التي وجدت نفسي مؤهلا للعمل بها، و قدمت أوراقي وكل المستندات ونشرت رقمي في قائمة أطباء الإحتياط في العديد من المستشفيات والمراكز الطبية !!
* ذات ليلة من الليالي والصيف يداعب وجه الشتاء الذي كان يستعد للرحيل، إتصل بي صديق عزيز يعمل طبيبا بإحدى المستشفيات الطرفية و بعد سؤال عن حالي ومآلي عرض عليًّ أن أعمل متعاوناً كطبيب عمومي في قسم الجراحة بتلك المستشفى التي كانت قد أطفأت شمعتها التاسعة قبل أيام وتذكرت أيام الجامعة حين تدربت في عنابر تلك المستشفي وكانت في ذاك الزمان القريب (نموذجية كما يحمل اسمها) فقد بنيت كصرح ملكي في حى طرفي بيوته متهالكة و جواره مدرسة لا سور لها و جامع لا مئذنة له ومواصلات داخلية أهم (شخص) فيها الحمار (مجرجراَ عربته ذات العجلتين).
* تشجعت للعمل بها لأنني كنت راغبا في اكتساب بعض المهارات الجراحية فقد منيت نفسي شرف أن أكون وسيلة الله في إنقاذ بعض ضحايا حوادث المرور في الشارع السفري القريب من المستشفى، وأن تكون بقدرة ربي وبيد عبده الضعيف حياة ثانية لهؤلاء الذين رمتهم الأقدار في رحاب مستشفانا الحديث النموذجي.
* ذهبت في اليوم الثاني بعد صلاة الفجر حاضرا، و إستخارة لربي وتعجيلاً لأمره إن شرا صرفه و إن خيرا عجله، ووصلت المستشفى في الساعة الثامنة صباحاً بعد معاناة مع وسائل التعذيب (عذراَ وسائل المواصلات) التي يتفنن في إدارتها نفر احترفوا المهنة برغم الصعاب، فجعلوا كل صفيحة ذات اربعة عجلات تحمل ركاباً و تهتك في بعض الأحيان أشياءً عن غير قصد.!!
* وصلت لمستشفاي طيب الذكر وأنا أقرأ و أكرر سورة يس التي قد حفظتها بالتكرار.. وصلت وأنا أحلم باستقرار وظيفي ورضا نفسي وراحة بال… دخلت عبر بوابة يحرسها فرد من أفراد النجدة والعمليات مما يبدو عليه من زيه وعرّفت بنفسي ودخلت إلى رحاب المستشفى بفنائها الفسيح ومظلاتها المتناثرة وبضع شجيرات مبعثرة هنا و هناك… وفي طريقي لمكتب المدير الطبي لاحظت إختفاء بعض قطع بلاط الأرضية من أرجاء الحوادث و تحطم بعضها الآخر ووجود بعض الهضاب و المنخفضات والتضاريس في الأرضية التي تدل على فشل في الصرف الصحي بالمستشفي، كما لاحظت تقشر جدرانها، و لكن…. للأمانة وجدت عمال النظافة يجتهدون في نظافة ما يمكن نظافته.!!
* وصلت لمكتب المدير وسألت السكرتيرة فأكدت لي أنه سيأتي خلال دقائق و كانت فقط 75 دقيقة، شربت فيها بعض الشاي الذي كدت أن أستفرغه و ذكرت ربي كثيراً وتصبرت بسورة يس الكريمة، وشرفني المدير بحضوره الكريم لمكتبه المتواضع فرحب بي و تمنى لي التوفيق في العمل وبشرني بأني سأجد مبتغاي هنا في هذا الصرح الطبي الشامخ و أبلغني عن حاجتهم لي لتغطية الحوادث من هذه اللحظة.. هكذا دون مقدمات و دون سؤال عن تصريح عمل أو مؤهلات… فحمدت ربي لتسهيله لأمري فقد جئت لأستفسر عن عمل فسلمني إياه في لحظة… و رقصت فرحا ونسيت أن كل سهل يخفي خلفه الكوارث وكل عجلة تأتي خلفها ندامة !!
* إستأذنت من المدير الطبي أن أعود لمنزلي لأحضر ما يلزمني للمبيت في المستشفي فأذن لي على مضض، فعدت للمنزل وبشرت أهلي بالخبر السار وأحضرت حقيبتي وعدت أدراجي للمستشفى…وصدمت حين إكتشفت أن حوادث الجراحة تتعامل مع كافة حالات الطوارئ والإصابات و الكسور وحالات الجراحة العامة وذلك إعتمادا على أطباء إمتياز تحت إشراف طبيب عمومي لم تتجاوز فترة خبرته الستة شهور و لا وجود لطبيب متمرس (اختصاصي أو نائب) !!
* في الساعة الأولى لاستلام العمل تم إحضار مجموعة من مصابي حادث مروري أغلبهم من الشرطة وعلى الفور بدأت بتوجيه الفريق الطبي ووزعتهم على المصابين وطلبت منهم حصر الكسور والإصابات والتأكد من عدم وجود أصابات خطيرة في الرأس أو نزيف داخلي في البطن، و جاءت الطامة.. طلبت منهم تركيب (كانيولا) لكل المصابين وإعطاء دربات معوضة للنزيف.. في هذه اللحظة إختفي إثنان من الأطباء و عادا بعد ربع ساعة وأحضرا ما طلبته بعد معاناة مع الصيدلي… طلبت منهم قطن معقم بمحلول مطهر ويا ويحي قد كنت في هذه اللحظة كمن كفر وطلب المستحيل، فقد أكدوا لي عدم وجود قطرة من المحلول المطهر في كل أقسام المستشفى… فاضطر كل مريض لتوفير شاشه وقطنه بنفسه وقد عانوا و بحــثوا عن المحلول المطهر و ما وجدوهما !!
* وجدت نفسي أعمل كطبيب طوارئ و إصابات و كسور بالإضافة للجراحة العامة… وجدت سوءا في تنظيم دخول و خروج المرافقين لغرفة الجراحة، حيث دخل فريق كامل من الشرطة مع المصابين وتعددت الرتب من جندى إلى نقيب… فوجئت بعدم توفر الأدوية المنقذة للحياة و جونتات الكشف في غرفة الجراحة التي يفترض كما فهمت أنها غرفة للإصابات والطوارئ… وجدت نفسي بعد خمس ساعات من إستلامي العمل راكضاً هرباً من بؤرة الموت ومدركا واقع أن تلك المستشفي تأخذ مني و لا تعطي.. تقلل من مستوى جودة عملي و لا ترقي، و تفتح عليّ أبواب الجحيم ولا ترحم…!!
* هذا هو مستوى الخدمات الصحية في مستشفي لم تكمل العشر سنوات على افتتاحها… المريض يشتري موسه لحلاقة شعر رأسه في حال إصابته في الرأس، كما يشتري قطنه وشاشه ودربه و دواءه و لا يحلم بأن يتم علاجه بطريقه معقمة…!!
* شاءت الظروف بعد ذلك أن ألتقي بأحد نواب الاختصاصيين الذين عملت معهم في فترة الامتياز، وصادف أنه متعاقد مع قسم الإصابات والطوارئ في إحدى المستشفيات الكبيرة في وسط إحدي المدن التي كانت تشكل زاوية من زوايا عاصمتنا المثلثة قبل أن تتفلطح و تصبح مجسما متعدد الزوايا مترهل الأضلاع… المهم في الأمر أني شرحت للطبيب النائب رغبتي في العمل في هذا القسم و قد أوصى بي لدى المدير الطبي المسئول عن قسم الحوادث، و لكن طالت مدة الإنتظار ومر الأسبوع الأول و الثاني و الثالث ودخل الرابع.. هنا إقترحت علي شريكة حياتي المستقبلية (بإذن الله) أن نذهب لزيارة صديقة لها تعمل بقسم الإصابات في ذاك المستشفي وتستفسرها عن مفاتيح التعيين بهذا القسم… و قد كان فسبقتني والتقت بصديقتها التي بدورها عرفتها على المدير الطبي الذي سلمها بكل بساطة الوظيفة في لحظتها…. وأتيت أنا متمهلا ًمعتمداً على توصية النائب ووجدت شريكتي حاملة جدول مناوباتها و تخيلوا ماذا حدث… قسمت مناوباتها بيني و بينها بالتساوي… إنتشيت طرباً بهذا الإنجاز المتواضع وفي داخلي (نكهة مريرة من الإحباط من الطريقة التي أتت بها هذه الربع وظيفة)…و لكن حمدت ربي أني سأعمل في مستشفى عملت فيه من قبل (في الإمتياز) وتوفر كافة علاجات الطوارئ والأدوية المنقذة للحياة مجاناً لكل المرضى بل و تضعها في متناول أطباء الطوارئ داخل غرفتهم…. و هنا تأتي راحة البال و رضى النفس والطمأنينة في العمل، ولكن مرتبى لا يكفي حق المواصلات والفطور !!.
* ذات يوم إتصل بي زميل من كردفان و طلب مني أن أتصل بالإنابة عنه بإحدى وكالات التوظيف الخارجي التي توفر عقودات عمل في السعودية و قد كان ولكم أن تتخيلوا النتيجة…. جاءنى عقد العمل في منزلي بعد أربع ساعات فقط من الإتصال الهاتفي حيث صادف أنّ صاحب الوكالة من سكان حي مجاور لمنزلي !!
* تخيلوا المملكة العربية السعودية تبحث في جحور السودان عن أطباء للتوظيف وتستقطبهم من منازلهم و تسكنهم و توظفهم بمرتب (3) مليون جنيه شهريا و بدل سكن (12) مليون سنويا و بلدي الحبيب يأبي حتى مجرد التعاون بحافز(10) دولارات كل (8) ساعات.. وعفوا يا بلدي…. و لكن غلبتني الحيلة فما العمل !!
مناظير – صحيفة السوداني
drzoheirali@yahoo.com
22 يناير 2010