مئات المقاتلين يعودون إلى جبال النوبة السودانية لتحديد مصيرها
بدأ مئات من المقاتلين الذين ينتمون إلى جبال النوبة العودة إليها للمشاركة لما يعرف بـ”المشورة الشعبية” التي ستجرى في يوليو/تموز القادم لتقرير مصير القبائل التي تعيش في المنطقة.
المشورة الشعبية هي الآلية التي أقرتها اتفاقية السلام 2005 لتقول قبائل جبال النوبة رأيهابتأييد الاتفاقية أو التفاوض مع الحكومة مجددا لتلبية طموحاتهم.
ويتخوف بعض أهالي النوبة الذين انخرطوا في صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان أثناء الحرب من عدم تلبية المشورة لطموحاتهم وسط أحاديث عن العودة لحمل السلاح ومطالب بتقرير المصير على غرار الجنوب وتجاوز مفهوم وآلية المشورة.
تتلخص خيارات شعب جبال النوبة في اتجاهين أولهما من مطالب بحكم ذاتي واسع وتحقيق تنمية حقيقية والحصول على نسبة من عائدات بترول الإقليم، إضافة إلى مساع نحو دستور دائم للسودان يضع في اعتباره حجم الإقليم، مع تمييز إيجابي بأثر رجعي باعتبار أن جبال النوبة كما يقولون هي من الأقاليم الأكثر تهميشا، والخيار الثاني المطالبة بحق تقرير المصير في حالة الشعور بعدم الجدية في تحقيق تطلعات جبال النوبة عبر آلية المشورة.
التقرير التالي يكشف المزيد من التفاصيل والأسرار حول هذه المنطقة.
جبل “نانتنغا” يشمخُ من أفق عند ولوجنا إلى حدود جنوب السودان، من “لوكوشوغيو” الكينية، حزمة شعاع باهر تتسلل من فوهةٍ تتبدى في قمته، تعزز من سطوة الشمس قبل ميلها نحو المغرب.
نهبت السيارات الطريق نحثها للوصول الباكر كي لايقدر الليل علينا أثراً..بيد أننا استوقفنا في نقطةِ تفتيشٍ تابعةٍ للحركة الشعبية.. حملق فينا الجنود.. قائدهم.. أمعن النظر إلينا، وتحدث إلى مرافقنا..فيسألني ..اسمك..أحمد .أم قرشي؟..
أقبل يحتضنني ويعانقني
الاجواء المعيشية في المنطقة
الاجواء المعيشية في المنطقة
عرفني باسمي الأول المركب.. قلت له: “أحمد القرشي”..كانوا يتحدثون لغة قبيلة الدينكا… فجأة تحول الوجوم والاستغراب إلى ابتسام.. وأقدم إلي الرجل يحتضنني.. ويعانقني!!. وكأهل السودان يكرر..السؤال عن الأحوال والتحية.
إنه القائد إبراهيم موسى، عرفني بذاكرته الموسوعية، فقد التقيته وخاله يوسف كوة زعيم الحركة الشعبية في جبال النوبة، لساعات في أديس أبابا العام 1985، زرناها ونحن طلاباً، هرب من السودان، وانضم للحركة الشعبية ودعوة خاله كوة للانتفاض.
ساعات غنيات، أصررنا عليه صحبتنا في ليل أديس أبابا البهيم قبل عقدين من الزمان، وأكرمناه كما يقول، بيد أنها دولارات معدودات، أنفقناها ونحن طلاب في زحمة اللهو، فلم ينس وثمن فعلتنا غالياً.
دجاجتان ذبحتا. هذا كل ما يملكون، مرافقونا ترجلوا ينتظرون، فبين بيضها كطعام والأمل في أن يخرج بعض البيض “دجاجا” آخر..لايصدق أحد في تلك البيئة القاسية أن يضحي عاقل بدجاجتين وليس بيضة أو ببيضتين.
آلافٌ من أبناء جبال النوبة، تقدمهم يوسف كوة، استهوتهم أفكار الحركة الشعبية، ودعوتهم إلى “السودان الجديد” حيثُ ينعم الجميع بحقوق متساوية وبحظٍ عادل من مواردها الاقتصادية.
مناطق جبال النوبة، تجدُ في الأسرة الواحدة مسلمين ومسيحيين يتعايشون في سلام. منظمات التبشير المسيحي حولت كثيراً منهم أوائل القرن الماضي من الإسلام إلى المسيحية بفضل خدماتها التعليمية والصحية.
جذورهم المعلومة تكاد تعرض عنها الدراسات، لكن شواهد لغوية وأسماء مكانية مثل كرمتي حيث بنيت البيوت القديمة كما في كرمة الشمال، حاضنة الدولة النوبية الأعظم، وعادات متأصلة، تربطها بلا جدال، بنوبةِ شمال السودان.
الأب فيليب عباس غبوش، ولا يخفى أن أباه كان مسلماً. بسط غبوش أثره عليهم أجمعين، فاعتمدت الحكومات في الخرطوم على التحالف معه لضمان الولاء.
النوبيون يحرسون المرمى والدفاع
عرف غبوش بلغته البسيطة العميقة التحريضية للتأكيد على عنصرية الشماليين، قال في احتفال جماهيري في الخرطوم: “إن الشماليين يضطهدونكم حتى ولو أجدتم. كيف لأبناء جبال النوبة يحرسون المرمى ويقفون مدافعين في فرق كرة القدم..والشماليون..يلعبون في الهجوم ليحرزوا الأهداف.. ويحصدوا الشهرة!
في النصف الثاني من الثمانينيات نشأت حركات جديدة وسط النوبة قادها شباب ومثقفون، ترفض الركون إلى التحالفات مع أحزاب المركز وحكوماته دون تحقيق تغيير نوعي وانسلخوا عن الحزب القومي الذي يتزعمه الأب فيليب عباس غبوش.
في غمرة ذلك وجد كثيرٌ من الشباب دفئاً في دعوة الحركة الشعبية لتحقيق الشعار القديم المتجدد “السودان الجديد” فانضموا إلى الصفوف، وقاتلوا مع الحركة في المناطق كافة، يسبقهم صيت الكفاءة في القتال والصبر عند اللقاء.
يوسف كوة زعيمهم.. مسلم، لم تفارقه سجادة الصلاة أينما ذهب، يربطها في كتفه مع سلاحه، في غمرة المعارك ينأى جانباً ويصلي، كما روى رفاقه، تزوج من مسيحية أسلمت على يديه.
قتله السرطان في مشفى بلندن.. غاب بهدوء.. في إبريل/نيسان عام 2001.
جبال النوبة.. أزمة قاسية
أحد الافراد يبني بيتا له
أحد الافراد يبني بيتا له
الآن أتباعه من المقاتلين يعودون بالمئات الى جبال النوبة للمشاركةِ في ما يعرف “بالمشورة الشعبية” التي نص عليها اتفاقُ السلام الذي أنهى حرب جنوب السودان..العام 2005.
الجنوبيون سيقيمون دولتهم المستقلة بعد أيام.. ونوبيو الجبال يعيشون أزمةً قاسية لتحديد مصيرهم في يوليو/تموز المقبل عام 2011 عبر وسيلةٍ لايتفق أحد على تعريفها بدقة.
مطلوبٌ من النوبة وأغلبهم كانوا يساندون الحركة الشعبية، ومن يشاركهم من قبائل البقارة والحوازمة والمسيرية والفلاتة التي تصنفُ على أساس أنها مدعومة من الحكومة المركزية أو الشمال.. مطلوبٌ منهم أن ينتخبوا من سيختارون مفوضية تجيب على مدى تحقيق اتفاق السلام في جنوب السودان لطموحاتهم.
منذ عام 1964، دب اليأس في صفوف كثيرين من شباب النوبة، انضموا الى الحركة، ومن ثمّ خرجوا منها، بعد مؤتمرٍ رأسه زعيمهم يوسف كوة. المؤتمر شكل حكومة لإدارة ما عرف بالمناطق المحررة. الحكومة حظيت فيها “النوبة” بوزارة السياحة والفنادق، وقبيلة الدينكا الأكبر في جنوب السودان، على أغلب المناصب وأهمها.
منصب “وزير السياحة”..كان حكراً للنوبة في الحكومات المتعاقبة في الخرطوم في بلدٍ غني بالتاريخ والثقافات.. بيد أنه لايعترفُ كثيراً بالسياحة ولا يحتفي بها.
وطالما سخروا من أن “الشماليين” يسعون لإرضاء ” النوبة بأبخس الأشياء: “وزارة السياحة”.. وكان طمعهم في فكر “السودان الجديد” عظيماً. والآن أمرهم حيرة وغموض بعد أن تركهم حلفاؤهم في الحركة لـ “المشورة” الشعبية.
وإذا كانت هذه “المشورة” ستتم بعد ستةِ أشهر من استقلال جنوب السودان..الآن تتطاير المرجعيات وُيفقدُ الأساس الذي سيقودُ العملية برمتها الى أمانٍ ممكن.. ويبعدها عن هولِ الفتنة والتفتيت. هكذا يتساءل كثيرون.
فكثرةٌ من النوبة يرون أن خيار “المشورة” نفسه كان تخلياً واضحاً من الحركة الشعبية عن إجماعٍ سابق أن النوبة يمكنهم تقرير مصيرهم، الاتحاد مع الجنوب أو الشمال أو إيجاد كيانٍ مستقل لمنطقتهم الممتدة على مساحةِ 48 ألف كيلومترٍ مربع ومتخمة بثرواتٍ نفطية وزراعية.
تدفقت الأسلحة والمسلحون لجبال النوبة.. بعضهم يعتقدُ أن استفتاء لتقرير المصير سيجرى متزامناً مع استفتاء الجنوب خلال عشرة أيام، وآخرون يستعدون لما ستسفر عنه مقبل الأيام.
دبي أحمد القرشي
العربية نت