كساد الصحف .. صُحف للايجار.. وأخرى تقاوم بكبرياء.. وبعضها رفع راية الاستسلام
أكثر من خمسين صحيفة سياسية واجتماعية واقتصادية ورياضية تصدر يومياً بالخرطوم.. في ظل الاقبال النهم على تصفح الانترنت والقنوات الفضائية التي صارت تنقل الحدث لحظة وقوعه.. والشبكة العنكبوتية التي ظلت تلاحق الأحداث في كل العالم وتوردها بكل تفاصيلها وقوالبها الصحفية..
زاد عدد الصحف ولم يزد عدد قرائها بدليل الكساد الذي ظل يلازم العديد من الصحف خلال السنوات الماضية. فكثير منها لا يتجاوز توزيعه الثلاثة آلاف نسخة او أقل.. مما أعجزها عن مواصلة الصدور..
….
راية الاستسلام
بعض الصحف السودانية تقاوم بكبرياء برغم الكساد الذي يلاحقها فلم تعد تكشف عن واقعها الذي يلزمها ان ترفع راية الاستسلام.. فالكثير منها لا تستطيع الايفاء بالتزاماتها تجاه العاملين بها فظلوا يعملون بها دون ان تصرف لهم رواتب لأكثر من أربعة أشهر وأخرى ستة أشهر.
والصحف عموماً تعاني من ضعف التوزيع فهي على كثرتها لا يتجاوز توزيعها (جميعها) أكثر من مائة ألف نسخة، بينما يرتفع التوزيع الى ما يقارب الـ (150) ألف نسخة عندما كانت تصدر صحيفتان فقط في وقت سابق.
اذن لماذا هذا الكساد؟ هل بسبب زيادة عدد الصحف الذي فاق التصور وبالتالي توزع عدد القراء (المحدود) على هذا الكم من الصحف؟.. ام للزيادة في قيمة النسخة التي تضاعفت من (500) جنيه الى ألف جنيه بالقديم ولم يستطع القارئ شراء كل الصحف التي كان معتاداً عليها؟ ام لأن المضمون متشابه واكتفى البعض بنسخة واحدة وترك الآخريات؟ ام ان الخلل في طريقة التوزيع بعد أن توقفت شركة التوزيع المركزي وترك الأمر للقطاع الخاص؟ وهل للاعلان دور في هذه القضية؟
ولماذا ترك مجلس الصحافة والمطبوعات الأمر حتى تعقد بهذه الصورة وكأن القضية لا تعنيه.. حيث دفع الصحافي الثمن غالياً.. ولماذا لم توضع آلية لرقابة الصحف وكشف ما يدور بداخلها والوقوف على أحوال العاملين بها؟ والاطمئنان على استقرار الصحيفة بعد أن صدق لها بالصدور؟
صحف للايجار
بحسب المعلومات المتوافرة تتراوح طباعة وتوزيع الصحف بين (3)آلاف نسخة الى (40) ألف نسخة يومياً للصحيفة الواحدة حسب مستواها واقبال القراء عليها.. وتتأرجح نسبة البيع الحقيقي بين (20% الى 85%) .. وتبلغ تكلفة الطباعة للنسخة الواحدة بين (25) قرشاً الى (60) قرشاً حسب الحجم والنوع والكمية (8-12-16 صفحة). وتأخذ شركات التوزيع والمكتبات نسبة (15% الى 17%) من سعر البيع.. بينما تتراوح نسبة عائد الاعلان بين (2% الى 25%) من قيمة التكلفة الكلية للصحيفة وفق مستواها وعلاقاتها وانتشارها والدعم المباشر للحكومة لبعضها من خلال الاعلان.. أدى ذلك ان تعتمد الصحف على سعر البيع المباشر بدلاً عن عائد الاعلان.. ولكن بعد زيادة سعر الصحيفة الى واحد جنيه شكل عقبة أساسية في الانتشار خاصة بين الطلاب والعمال وذوي الدخل المحدود مما أدى الى ظاهرة الايجار والاستعارة من جانب القراء ويقدر حجم الايجار والاستعارة بحوالي (40%) من الكمية الموزعة. فضلاً عن ضعف مستوى الطباعة وعدم وجود مطابع حديثة تساعد على ترويج الصحف.. كما أن الكثير من الصحف مدينة لتلك المطابع بحسب المشكلات التي تواجهها..
كل هذه العقبات أكدها الناشرون ورؤساء التحرير فكيف يمكن الخروج من عنق الزجاجة؟
وهل يفيد الطرح الذي بادر به اتحاد الصحافيين بدمج الصحف لتصبح مؤسسات صحفية قوية لتتجاوز تلك المشكلات؟ أم أن هذا المقترح سيفشل وفي أذهاننا التجارب السابقة التي لم يحالفها النجاح، دمج صحف السودان الحديث والانقاذ الوطني وسوداناو.. ودمج الصحافة والصحافي الدولي والحرية؟! أم أن الطرح سينفذ برؤى جديدة تتجاوز العقبات التي واجهت التجارب السابقة؟ الناشرين ورؤساء التحرير ناقشوا هذه القضية والوضع الراهن للصحف برؤى مختلفة وتحدثوا بمرارة عن ما تواجهه الصحافة السودانية من مشكلات اقعدت الكثير منها عن الانطلاق والتطور والبعض توقف عن الصدور.
قراءة السوق
د. ياسر محجوب -رئيس تحرير صحيفة الرائد – نظر للقضية من منظور ان الصحافة صناعة معقدة تحتاج الى دراسات ونظرة فاحصة لما يحتاجه السوق.. فهي تتأثر بالنشاط الاقتصادي كأية صناعة أخرى كتأثيرات الخسارة والربح والعرض والطلب وقراءة لما يطلبه السوق قراءة دقيقة.. ولكن أصحاب الصحف لا يحسبون هذا الامر اذ انهم لا يبنون على حسابات واقعية أو دراسة دقيقة ومحكمة.. ففي البداية تنفذ الفكرة بحماس شديد واندفاع نحو تحقيق هدف الصدور وهم في عجلة لتحقيق ارباح أكبر.
د. ياسر نظر للقضية من جانب آخر وأشرك الدولة في فشل المؤسسات الصحفية. ففي افاداته ذكر أن الدولة يجب ألا تنظر للصحف كنشاط اقتصادي بحت وتتركها لتفاعلات السوق.. فالصحف من خلال رسالتها تقدم خدمة للمجتمع وللدول فهي التي تشكل (الرأي العام) وتؤثر فيه وتقوم بايصال رسالة الدولة داخل وخارج البلاد بطريقة أو بأخرى وتخدم المجتمع في جانب التثقيف والتوعية والتعليم فهي تقوم بدور مهم يجب أن تنظر له الدولة بعين الاعتبار والتقدير ولا تعامله كالنشاطات الاقتصادية الأخرى.. فكثير من الدول تقدر هذا الدور وتمنحها ميزات كتخفيض الضرائب واعفائها من رسوم مدخلات انتاج صناعة الصحافة كالورق والطباعة والكهرباء، فهذه من الاشياء التي ارهقت المؤسسات الصحفية كثيراً.
ويمضي د. ياسر في ايضاحاته لمعيقات انطلاقة الصحف.. بأن مجلس الصحافة يجب ان يكون له دور واضح وبارز في منحه التصديقات لصدور الصحف. فهو بحكم خبرته وقراءاته للسوق يجب ان يتشدد في الجوانب المالية لأية جهة ترغب في اصدار صحيفة هل ستستطيع الاستمرار ومواجهة العقبات وعلى ضوء هذه القراءات تمنح او تمنع الجهة المعنية التي ترغب في اصدار الصحيفة..
وفي حديثه عن دمج الصحف الذي طرح لخيار لحل مشكلات الصحافة قال: برغم ان الدولة تشجع هذا الأمر إلا أن القضية تحتاج الى نقاش وحوار مع كل المعنيين بالأمر.. وان يصل النقاش الى اجابات لاسئلة قد تدور في أذهان الكثيرين: الى أي مدى ستصبح الشراكة ذات جدوى؟ فذلك يتطلب تنازل كل شريك للآخر فمن الذي يتنازل للآخر؟ وهل الأمر لمعالجة التعثر أم في اطار انشاء مؤسسات صحفية كبرى؟
فمطلوب من الناشرين ان يصلوا الى قناعات وان يتفهموا الغرض الاساسي من الدمج وان يوجد ما يجمع بين المؤسسات الصحفية التي ارتضت الدمج حتى يحدث التفاعل ونكون قادرين على انشاء مؤسسات صحفية ضخمة تحقق ارباحاً أكثر وبالتالي تنتج صحافة جيدة ترضي طموح القارئ.. وأعتقد أن ذلك يمكن أن يحدث.. فقط الأمر يحتاج الى نقاش كبير.
رحاب طه – رئيس تحرير صحيفة الوفاق- لخص مشكلات الصحافة في عدة نقاط وركز في أن السبب الرئيسي للازمة قصر نظر القائمين على أمر المؤسسات الصحفية بدءاً من الناشرين والاداريين ورؤساء التحرير وعدم وجود رؤية واضحة للواقع.. فلا توجد خطة لمعالجة المشكلات السياسية من خلال الصحف. وأجزم انه لا توجد صحيفة لديها تفكير فردي او جماعي فكيف تواجه المؤسسة الصحفية الاستفتاء وآثاره السالبة؟
ومن المشكلات التنافس السالب بين الناشرين والكيد لبعضهم بدلاً من التعاون ويرمي ذلك بظلال كثيفة على استقرار الصحف..
أيضاً عدم النظر للوضع الاقتصادي بواقعية. فمثلاً زيادة اسعار الصحف ضاعفت المشكلات بدلاً من ان تسهم في حلها.. والفساد في سوق الاعلان فمعظم الشركات التي تعمل في هذا المجال تستغل ضعف المؤسسات الصحفية لتخفيض سعر الاعلان فتضطر الصحف لنشر الاعلان مما يزيد خساراتها.. المشكلة الأخرى الضرائب على الاعلان التي تفرض على المؤسسات الصحفية عالية جداً مما يقلل فائدة الاعلان..
ومشكلات أخرى في جانب التوزيع .. في عدم تطور شركات التوزيع فالمؤسسات الصحفية لم تسع او تشارك في تطوير هذه الشركات فما زالت شركات التوزيع تعمل بطريقة تقليدية.. كما أن الدولة قامت بإزالة عدد مقدر من مواعين التوزيع وهذا بدوره قلل فرص انتشار الصحف.
وتحدث عن مشكلات الطباعة والورق وقال: رغم ان الورق معفى من الجمارك إلاَّ انه يمثل هاجساً لكثير من المؤسسات الصحفية حيث لا يوجد لديها رأسمال كبير او مبلغ تخصصه لشراء الورق مباشرة من الخارج لذلك تضطر لشرائه من المحتكرين وتجار الورق بأسعار باهظة بحسب حاجتها اليومية، وقد يزيد ذلك أزماتها اذا تأخرت في السداد.
وفي حديثه عن مقترح دمج الصحف قال إن حواراً دار بخصوص هذا الأمر في وقت سابق والرؤية يمكن أن تتحقق ولكن بعض المؤسسات الصحفية ترفضها فهم ينظرون للصحف كوسيلة كسب وليس هدفهم تطوير الصحافة في السودان.. والبعض يرفضها ليس لان اوضاعه مستقرة بل لأن الصحيفة تحقق له وضعاً اجتماعياً يكسب منه اشياء اخرى قد يباعد الدمج بينها.
وتحدث عادل الباز – رئيس تحرير صحيفة الاحداث – باستياء شديد حول أوضاع الصحافة السودانية. وقال ان مشكلاتها عديدة تحتاج لمعالجات جذرية من الدولة والمستثمرين ومجلس الصحافة، الباز تحدث عن هذه المشكلات ابتداءً من البنى التحتية للصحافة والكادر البشري والكليات التي تخرج اعلاميين ليس لهم أساس مهني ويحتاجون لجرعات تدريبية كثيفة..
وأن البنية الصناعية للصحف من مطابع وتوزيع بنية منهارة.. فالمطابع (90%) منها من القرن التاسع عشر والورق لا يواكب الدول الأخرى، لذلك لا ننتج صحفاً متطورة.. والتوزيع تقليدي فشركات التوزيع ليس لها خدمة متطورة او حديثة تقدمها للمؤسسات الصحفية..فصناعة الصحف أصبحت تجارة رغم إنها كاسدة لكنها مغرية لرجال الأعمال. فلا توجد فكرة سليمة لادارة المؤسسات الصحفية.. فالمستثمر فيها متعجل ويريد الربح السريع وصناعة الصحافة لا تقبل ذلك.. لذا فالكثير من الصحف توقفت عن الصدور لان رأس المال ضعيف والمستثمر مستعجل.. فلدينا الآن كناتين صحفية وليس مؤسسات صحفية. وبرغم ان القانون أتاح حريات الصدور ومنح الفرص لاصدار العديد من الصحف إلا أن الواقع الراهن للصحف يجعل لمجلس الصحافة ان يكون له دور لمراجعة القانون وتعديله بمعايير جديدة ينقذ بها حال المؤسسات الصحفية.وهناك مشكلات تواجه بعض الناشرين الذين لا يلتزمون بدفع تكاليف الطباعة فتصبح ديوناً لا تستطيع المطبعة تحصيلها بعد اغلاق الصحيفة بسبب التعثر.. واحياناً تكون للصحيفة ديون لا تستطيع تحصيلها من جهات عديدة فينعكس ذلك على عدم ايفائها تجاه المحررين او المطبعة. لذا فان الصحافة في السودان ستظل تعاني ان لم تجد الحلول المناسبة.. وفكرة دمج المؤسسات الصحفية بحسب رأي الباز حتى الآن لم تتضح رؤيتها فبعض الصحف لا تساوي شيئاً في سوق الصحافة فان تم دمجها ستزيد المشكلات.. فالدولة لابد ان تطرح حزمة حلول ومحفزات لتغري المؤسسات على الدمج، وبالتالي يمكن انشاء مؤسسات صحفية ضخمة تتجاوز كل المحن.
اتهام لشركات التوزيع
صناعة الصحافة هي جزء من الاوضاع الاقتصادية في السودان.. فمدخلات الصحف وتكاليف التشغيل ارتفعت ولم تقابل ذلك زيادة في ايرادات الصحف..
هكذا لخص النور أحمد النور – رئيس تحرير صحيفة (الصحافة) واقع الصحافة في السودان.. وزاد: فمع تعدد قنوات المعلومات والاخبار كالفضائيات والانترنت تواجه الصحف مشكلات عديدة زاد من كسادها.. كما ان شركات التوزيع بضعفها وامكانياتها غير الكافية أسهمت في تراجع توزيع الصحف، اضافة الى اغلاق العديد من اكشاك ومنافذ التوزيع.. ثم عدم قدرة شركات التوزيع على ايصال الصحيفة للولايات فمعظم الصحف توزع بالخرطوم.
فهذه الأوضاع يجب وضعها في الحسبان عند مناقشة خيار ومقترح دمج المؤسسات الصحفية. ولابد من التفكير في عمليات اصلاح وان تدخل مؤسسات اقتصادية كبرى وان يدرس الأمر بطريقة جادة.
الحلقة القادمة:
بعد شرح الناشرين والقائمين على أمر المؤسسات الصحفية أوجاع وأدواء الصحافة السودانية.. والتي انصبت جميعها في عدم القدرة على صناعة صحافة متطورة.. والتوسع غير المؤسس في اصدار كم هائل من الصحف دون دراسة متأنية.. يبقى اللقاء بالقائمين على أمر مجلس الصحافة والمطبوعات واتحاد الصحافيين السودانيين ضرورة مهمة للاجابة على الكثير من التساؤلات..
الراي العام
تحقيق: سامية علي