الفاضل سعيد.. ذاكرة الكوميديا السودانية
تزدان الدراما الرمضانية في كل عام على الفضائيات، وهي تعمل على إعادة قراءة الرموز الفنية التي طرزت الساحة، فها هي تقوم بإعادة انتاج رشدي أباظة، والملكة نازلي، واسماعيل ياسين وأم كلثوم واسمهان.. إلخ..
هذا في الفضائيات العربية من حولنا.. أما عندنا، فلا رموز ولا شخصيات يعاد انتاجها واستخراج كنوزها الفنية، وككل عام، نقع في ذات العقوق الفني..
مرت -كالعادة- الذكرى الخامسة لرحيل الرمز الكوميدي الفاضل سعيد، عادية جداً، اللهم إلا بعض الحشرجات هنا وهنا، وتبادل بعض أنخاب الكلمات العذبة في حق الراحل..
….
وفي ذكراه يقول مكي سنادة: يعد الفاضل أحد رواد المسرح السوداني،وتجربة لن تتكرر، وغير قابلة لذلك، لانها تبسيطية، بقدرات كبيرة، استطاع خلالها الفاضل سعيد أن يقيم مسرحاً في أي مكان، السوق والمدرسة، والقرى النائية.. كان متفرداً.
يعد الفاضل سعيد في أدبيات المسرح، من أصحاب الوعي المغاير، وذلك بتحويله النص الواقعي إلى كوميديا ساخرة، ومعالجة في ذات الحيز، لذا ظل يحتل موقعاً مميزاً ويؤكد ذلك عبر مسيرته الفنية منذ مطلع الخمسينيات، فقد ارتبط اسمه في دراسات المسرح السوداني بالكوميديا الواقعية من خلال (بت قضيم والعجب وأمو وكرتوب.. الخ) فهو واحد من أقوى الأسماء التي أسهمت في خلق الكوميديا عبر مراحل تطورها من خلال طرح فكرة النص المركزية، الانسان البسيط، هذا ما يؤكده الفاضل سعيد نفسه، حيث يقول: أنا تربية أربعة حبوبات، تعلمت المسرح من بت اللعاب، يعني كان يمكن أن يكون عندي قنبور وسايق ترتار، وجاري في الشوارع، والدي ذلك العامل البسيط بالنقل الميكانيكي، كان يراني ذلك الولد تربية الحبوبات، الذي لن ينفع.. أنا كنت اسمع من اربعة حبوبات، فتمسرحت وأنا يافع صغير جداً.. هذه بدايتي.. وهذا هو ميلادي).
يقال في الفلسفة الدرامية ان انتهاء فُرجة الشخصيات، يتوافق مع تصدع شروط وجودها، إلا الفاضل سعيد، فقد كان من الشخصيات بسيطة التركيب والبناء، تماماً كما قال عنه الناقد السر السيد: يعد الفاضل سعيد واحداً من رواد التنوير، ومن الشركاء الذين أسهموا في خلق أرضية، للتنمية الاجتماعية في بلادنا، حيث قام الفاضل بربط قضية الفن بالتنمية الاجتماعية، فقد أسهمت شخصياته النمطية بشكل كبير في توسيع دائرة الحوار الاجتماعي وأثر بتعدد مواقع الرؤية واختلاف الآراء، لهذا فهو الأسبق في المسرح الاجتماعي والاخراج والموضوع الذي يتم إلتقاطه من زمن بعيد.
لذا فإنا نرى أن الفاضل من الشخصيات المتخمة بالعمق الفني، وظلت مسرحياته تجوب الولايات السودانية ويتفاعل معها َكل بمودة، تخاطب واقعهم الحياتي، وكان يقدم شخصياته وفق معطيات ومفاهيم ترتبط بشروط كوميديا الواقع السوداني، فكرتوب والعجب أمو، وبت قضيم شخصيات سودانية تجدها غالباً في أي بيت سوداني.
عندما كان يافعاً وجد الفاضل سعيد في المدرسة الأولية، وجد أمامه الأستاذ خالد ابو الروس الذي كان يدرسه مادة الحساب، فشاهده مع فرقة السودان للتمثيل، وحينها تمنى الفاضل أن يصبح مثله، ولكن أبو الروس وقف في طريقه وهو يقدم مع الطلاب بالمدرسة مسرح (الملايات)، فقال له الراحل ابو الروس: يا ابن لا أريدك أن تمثل الآن، ولو مثلت الآن فلن تتعلم، ونحن في حاجة للممثل المتعلم، فأضحى هذا الممثل نموذجاً معرفياً للدراسات العليا.. ويقول السر السيد: تم تدريس أعمال الفاضل سعيد في سياق تاريخ الكوميديا في السودان وهو لم يزل على قيد الحياة، كما قدمت بحوث ورسائل علمية حوله، وصلت حتى درجة الدكتوراة..
تميز الفاضل سعيد في صناعة الارتجال والفعل الخلاق، كما انه صانع جماهيرية المسرح وتقاليده في السودان، وفي ذلك أكد البروفيسور جمال الدين عثمان: صادف بداية مسيرة الفاضل سعيد الفنية مطلع السبعينيات، صادفت نشوء تيارات المسرح الحديث في اوروبا، وتميز الفاضل سعيد بتكنيك خاص في الاخراج والتمثيل.
الضحك الآن، أضحى صناعة معقدة، فشخصيات الفاضل لحظتئذٍ كانت شخصيات بعدها الرمزي أكبر من بعدها الواقعي، لذلك استطاعت أن تظل موجودة على مر الأزمان والظروف، ولانها رمزياً تمثل دور الشاهد (الذي شاف كل حاجة) ولهذا فاننا نرى المصريين مثلاً يقومون عند كل سانحة درامية بإعادة قراءة رموزهم الفنية عموماً، والتسويق لها واقناع الناس والمشاهدين بفضائها الابداعي .. وكل ذلك من أجل تخليدها..واحياء ذكراها..
توفي الفاضل سعيد قبل خمسة أعوام في مدينة بورتسودان حيث كان يقدم آخر مسرحياته، ومنح الدكتوراة الفخرية قبل رحيله، وامتدت رحلته لخمسين عاماً من العطاء، وأسس تياراً مسرحياً هو الأول في السودان، وعن ذلك يقول الفاضل: (أنا دنقلاوي أماً وأباً، من منطقة الغدار، يعني رطاني، والدناقلة ليسوا أهل شعر أو غناء، والدنقلاوي لو صفّق بيكون أشتر، ولكن امدرمان مسقط رأسي هي التي كونت شخصيتي)..
الآن تتبارى الفضائيات في احياء ذواكر فنية كان لها عطاؤها الابداعي في أجيال خلت، وتحاول اعادة بعثها لأجيال اليوم، ولسان الحال يقول (من شابه أباه فما ظلم)، ..
أين كتاب السيناريو والمخرجون والممثلون، ليقوموا بقراءة جديدة لمسيرة خمسين عاماً.. تسمى (الفاضل سعيد)..
الراي العام