تحقيقات وتقارير

تايتنك السودانية : الذكرى 28 للباخرة 10 رمضان

مضى أكثر من (28) عاماً.. ولكن ما زالت تفاصيل الـ (72) ساعة الأكثر رعباً وخوفاً عالقة في أذهان الناجين من الباخرة (10) رمضان القادمة من أسوان إلى ميناء وادي حلفا وعلى متنها (725) راكباً من ضمنهم نحو (50) طالبة من مدرسة الخير حاج موسى الثانوية بأم دوم في منتصف ليلة 24 مايو 1983 وهي راسية بالقرب من جبل في عرض النيل على بعد حوالى (200) متر من شاطئ أبوسمبل. مشاهد لا تخطر على بال أحد رواها الناجون لـ «الرأي العام» من داخل منزل صلاح اسماعيل العماس (65) عاماً أحد الناجين وفقد أسرته في الرحلة المشؤومة.. ونفتح أيضاً ملف الديات والتعويضات لأسر الضحايا الذي ظل مغلقاً طيلة (28) عاماً.

يتنبأ بالحريق
قبل ان تنطلق الباخرة من ميناء أسوان كانت مجموعة من الشباب من بينهم بابكر حسن بابكر على متنها يدخنون السجائر.. فأطفأ بابكر سيجارته، فقال له الاستاذ حسن مصطفى خالد وكيل مدرسة الخير الحاج ومشرف الرحلة.. مازحاً: لا تطفيء سيجارتك هنا..
لماذا؟
فسألة فقال: رأيت ليلة البارحة حلماً مزعجاً.. ومضى: رأيت الباخرة تحاصرها النيران من كل صوب.
وحدث ما تنبأ به الاستاذ حسن وما أن رست الباخرة على جبل «أبوسمبل» واندلعت النيران فيها وأحالتها الى كومة من المعدن، ومات الاستاذ حسن الذي تنبأ بالحادث.

http://rayaam.info/news_images/5142010111635AM1.jpeg
جزيرة الموت
بعد إنقطاع حبل الباخرة الذي كان يربطها بالجبل وسقوط الركاب الذين كانوا يحاولون العبور به الى الجبل، حمل تيار النهر الباخرة بعيداً عن ا لجبل، ابتعدت نحو «200» متر من مرساها قرب الجبل، المشهد كمارواه أحد الناجين كان أشبه بكابوس مرعب، بحيث كان يشاهد «الركاب» يصارعون الأمواج بعد ان قذفوا بأنفسهم الى النيل هرباً من النيران منهم من غاص الى الأعماق، وآخرون بقوا على سطح المياه، يحاولون التشبث بأي شيء، وكذلك استرجعت ذاكرته مشهد الطالبات يرمين بأنفسهن الى النيل، وجثث من يستطيعو السقوط في النيل تتحول الى كومة من الرماد.
ويقول أ. بابكرحسن بابكر «48» سنة مشرف رحلة طالبات المدرسة الثانوية، سمعت صراخاً من الطابق الأرضي.. وأنا لحظتها كنت أرقد جوار المخرج سألت زميلي وابن عمي عما حدث.. فقال لي: ربما هناك لص قبضوا عليه، ولكن ارتفع صوت الصراخ.. فخرجت لأستطلع الأمر.. وحاولت إحدى الطالبات الخروج معي.. فنهرتها بالعودة الى مكانها، ولكن أخذت تضحك بصوت عال، فنهرتها مرة اخرى لتعود الى مكانها، وخرجت لأجد الطابق الأسفل عبارة عن كرة من اللهب، فصرخت حريق.. حريق.. واندفعنا الى ردهة الباخرة نبحث عن أنابيب الإطفاء.. صمت لحظة وعاد بقوله: «ولكننا وجدناها فارغة، وهرولنا الى مربط «أطواق النجاة» ولكن الحسرة تعتلي تقاسيمه.. وجدنا جراباتها فقط.. لم تكن هناك أطواق للنجاة فلم يكن أمامنا سوى القفز الى الماء واللجوء الى الجبل، حتى الجبل لم يكن مثل باقي الجبال، كان عبارة عن صخرة عالية مدببة ملساء لا تستطيع البقاء عليه إن لم تكن قوياً.. كنا نمسك أطراف الصخور خوفاً أن نتدحرج، وبالفعل تدحرج كثيرون من أعلى الجبل.. منهم من سقط ميتاً.. بعد أن لدغته عقرب رملية.. أو أفعى سامة، وبعد أن هدأ روعي قليلاً أخذت أبحث عن بقية رفقائى.. وبعد بحث ليس بطويل وجدت شقيقتي «إبتسام حسن بابكر» تصارع الموت فوق صخرة بعد أن لدغتها عقرب، ولم تمض ثوان قبل ان تلفظ أنفاسها الأخيرة.. ولكنني لم أنهار في تلك اللحظة وجدت ابن خالتي مجدي إبراهيم الذي كاد الهلع يفقده عقله وأخذته في حضني وقلت له: مجدي «ابتسام اختي ماتت» لم يستطع مجدي التحمل فانهار كلياً، ولم يعد في وعيه.
أخذ نفساً عميقاً قبل ان يمضي في سرده وقال: لم يكن الوقت يتحمل الانهيار «50» من طالباتنا على متن الباخرة ولا نعرف مصيرهن.. فعدت الى رحلة البحث.
أخذنا نتفحص جثث الموتى التي كانت تطفو فوق النيل كأنها سمك نافق، صدقني لم يهزني شيء سوى «الطالبة التي نهرتها بالعودة الى الغرفة قبل نزولي من الباخرة، وجدت جثة تلك الطالبة تطفو وكانت هيئتها كأنها حية لم تمت لحظتها تخيلت ضحكتها التي كانت تتردد في أذني.. سحبتها الى الجبل، والمرارة تعتصرني وأثناء تجوالي وجدت الأخ صلاح عماس أيضاً يتجول بحثاً عن الرفقاء ولكنه بحالة يُرثى لها.. ويصرخ بأعلى صوته «المسكين فقد اربعة من أسرته في الرحلة.. صمت برهة وقال: هل تصدق بأنني تمنيت أن يصل خبر وفاتي مع خبر وفاة شقيقتي الى أمي في السودان.. كان أمراً بشعاً.. شيء لا يمكن تصوره.. أو تحمله، مئات الجثث تتناثر أمامك بين غريق يخرج مادة بيضاء من فتحة أنفه أو محترق والأفظع مشهد الركاب الذين تحولوا الى كومة من اللحم المشوي.

غرفة الأشباح
يروي بابكربأنه دخل الى الغرفة التي وضعت فيها الجثث بعد نقلها الى أبوسمبل للتعرف على أصحابها ومعه طبيب، وكانت الغرفة مظلمة، ولذا كان الطبيب يحمل معه شمعداناً ونعبر على الجثث بحذر حتى لانطأ احداها، وعندما وصلنا منتصف الغرفة خرج الطبيب من الغرفة ومعه الشمعدان.. فبقيت وحدي وسط مئات الموتى، وبينما أنا أقف مرعوباً.. شعرت بشيء يضربني في رجلي بوتيرة واحدة.. «قلت في نفسي» ربما استيقظ أحدهم وبمجرد أن تخيلت هذا الأمر دب الرعب في كل خلايا جسدي.. وتجمد الدم في عروقي.. وأنا في حالتي هذه عاد الطبيب وبصعوبة نظرت الى أسفل رجلي وجدت ملاءة كانت تتغطى بها إحدى الجثث تتحرك مع هواء المروحة وتلامس رجلي.

سباق مع الزمن
الاستاذ مجدي إبراهيم معلم في الثامنة والاربعين من عمره والمشهور بـ«مجدي مجروس» بدا شارداً.. ربما كان يقلب دفتر الذكريات الرمادية، مجدي كان ضمن رحلة مدرسة الخير الحاج الثانوية، وفقد شقيقته «إقبال إبراهيم» في الرحلة المشؤومة، روى تفاصيل اللحظات المخيفة قائلاً: «بعد أن تناولنا طعام العشاء ذهبت أنا وشقيقتي المرحومة إقبال وابنتيّ خالتي وابن خالي الى النوم بأرضية الصندل، وبعد قليل تنامى الى سمعي صوت شخص كأنه يقول «حرامي.. حرامي» فلم أعر الأمر اهتماماً.. ولكن بعد برهة رأيت ألسنة النيران تكاد تصل الطابق العلوي، فهرولت الى الأسفل لأجد الباخرة تحولت الى كرة من اللهب ودوي إنفجارات يكاد يصم الآذان.. والشرر يتطاير وانقطع التيار الكهربائي، واختلط الحابل بالنابل، وامتزجت الآهات بالصراخ.. والأنين ووجدت نفسي وسط الجحيم، لم أفكر سوى في كيفية إنقاذ ما يمكن فأسرعت الى أنابيب الإطفاء فوجدتها فارغة، عدت الى مكاني القديم ولكن لم يكن هناك موطيء قدم بحيث نشبت النيران في كل شيء.. حتى الملابس التي نرتديها، فأخذ الناس ينتزعونها من أجسادهم قبل ان تصل إليهم النار.
سألني قائلاً: هل يمكنك ان تتخيل يوم القيامة؟ إنه كان أشبه به، كان الكل يقول: نفسي.. نفسي.. يسابقون الزمن للهروب من ذاك الجحيم.

قراصنة البحر
أفلام القرون الوسطى في التلفزيون تعيدني الى ساعات ذلك اليوم.. مشاهد صراع القراصنة مع عواصف المحيطات وصعودهم الى حبال الصواري، المشهد كان أشبه بـ«تايتنك» سودانية.. كان المشهد مثله حيث اندفع الناس الى حبل الباخرة يحاولون العبور به الى الجبل.. منهم من سقط ومنهم من وصل الى الجبل، فاندفعت أنا بدوري الى مقدمة الباخرة المقابلة للجبل، والجهة الوحيدة التي لم تصلها النيران. فأمسكت بالحبل ولكن امتدت النيران الى الحبل وفي اللحظة التي انفصل الحبل من الباخرة وصلت حافة الجبل، وجدت مئات الناجين، عراة وشبه عراة يجرون هنا وهناك، من الحشرات ومنهم من فقد عقله ويصرخ ويبكي، وزاد الظلام، الإحساس بالرعب اكثر تعميقاً في الناس، وبينما أجول ببصري والخوف يكاد يفتك بي وجدت ابن خالتي بابكر، الذي احتضنني وقال لي: «إبتسام اختي ماتت».. لم أشعر بشيء من تلك اللحظة حتى وجدت نفسي في مستشفى «أبوسمبل» بحيث تم نقلي الى هناك بعد أن أصبت بانهيار عصبي.

جزيرة التماسيح
الصديق بركات البشير (50) عاماً من أبناء الشريف بشرق النيل، قبل أن يروى لنا تفاصيل الرحلة قال لي بأنه الى وقت قريب كان يخاف من النار، واستطرد بأنه في يوم من الأيام كان يمر بجوار مكب قمامة تشتعل فيه النار، فأسرعت مبتعداً منه.. وبشكل جعلني أسأل نفسي: ماذا دهاني!؟
مازالت ذاكرة الصديق تختزن تفاصيل «رحلة الموت».. بالرغم – كما قال- من مرور (28) عاماً من حدوثها.. ووصف الموقف «بالكابوس» الذي ظلت مشاهده جاثمة في أذهانهم الى يومنا هذا.
ويروي قائلاً: وبما أنني من أبناء النيل وأجيد السباحة لم أتردد في السقوط الى النهر.. وقبل أن أرمي نفسي.. تلفت يميناً وجدت طفلاً في السادسة من العمر يراقبني وكأنه ينتظرني أتصرف ليتصرف مثلي.. قفزت، فقفز خلفي.. ولكن لا أدري ماذا حدث له بعد ذلك، عشرات الركاب رموا بأنفسهم في النيل وطبعاً أغلبهم لايجيدون السباحة ومن بينهم شاب في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمره حاول الإمساك بي وبما أنني خشبت أن يغوص بي الى الأعماق أسرعت مبتعداً عنه.. ولكنه استطاع الإمساك بي، وتفاجأت بعدد كبير من الناس يحاولون الأمساك بي (صمت برهة) وقال: كنت أرى الناس أمامي يصارعون الموت، وبعد أن شعرت بالخطر غصت الى الأعماق نحو مترين. وبدأت أسبح نحو الجبل ولكن التيار دفعني الى جزيرة صخرية صغيرة في مساح (10) أمتار أو أكثر وجدت فيها (3) فتيات في سن (16-11-7) في حالة مزرية.. عرفنا أنهن شقيقات فقالت لي إحداهن بأنهن يبحث عن والديهن، ولكن الكبيرة همست لي بأن والديهما توفيا ولكنها لم تستطع أن تخبر شقيقاتها الصغيرات، أكثر ما أثار استغرابي هو احتمال تلك الفتاة الصغيرة التي ظلت ثابتة حتى ركوبنا للطائرة في طريق عودتنا الى السودان بحيث أجهشت بالبكاء.
ويعود (الصديق) الى لحظات غضب الأفاعى والثعابين والعقارب التي خرجت من مخابئها لارتفاع درجة الحرارة بفعل النيران، التي أفرغت سمومها في أجساد الناجين من جحيم النار فوق الجبل. وتركتهم جثثاً هامدة.
ويروي قائلاً: هناك الكثير من فقدوا صوابهم وعقولهم، ورأيت رجلاً يصرخ قائلاً: «أنا من أطحت بالملك فاروق من عرش مصر».
كل هذا من هول المشهد.. كيف تعتقد شخصاً يسمع دوي إنفجار الجماجم.. أو تطاير الأشلاء أن يكون سليماً إن لم يكن قوياً.. كل هذه المشاهد المفزعة كانت تجري أمام أعيننا ومسامعنا.

تحقيق: نبيل صالح تصوير: يحيى شالكا
صحيفة الراي العام

تعليق واحد

  1. ندعو الله ان يتقبل الاموات في الشهداء وان ينعم بدوام الصحة علي الاحياء ولا شك انها كانت لحظات رهيبة والسرد كأنه صورة حية لتلك الاحداث تنقبض معها الانفاس