مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : انفصال جنوب السودان.. أزمة باقية

[JUSTIFY]وقفتُ مليّاً عند نداء دعاة الانفصال إلى ترك ما للجنوب للجنوب بدعوى أنّ الذي يحدث هناك شأن داخلي لا دخل للحكومة السودانية أو المعارضة به. وإن كان حماس بعض قوى المعارضة الزائد للتكرم باقتراح الحلول لدولة الجنوب بينما تقصّر الحلول عن المشاكل الداخلية، هو مصدر هذا الانتقاد فإنّه لا يعني صرف النظر بتاتاً عن المشكلة حتى ولو من باب التدارس والتشاور وتحليل مدى تأثير نتائجها على السودان.

لطالما غالب الوحدويون أشجانهم ودموعهم منذ إعلان نتائج الاستفتاء على انفصال الجنوب في يناير 2011م ، دون أن تتغير وسائل المواجهة الحامية مع الانفصاليين الذين هللوا لذاك الحدث الجلل. ولكن وبشكل أكبر من التسليم به حتى أصبح أمراً واقعاً.

أدارت الحكومة ظهرها لجنوب السودان ووقفت ضد مصلحة السودان الموحد، فتضرّر بذلك الجنوب والشمال. وزادت الأزمة بإيقاف مرور نفط الجنوب الذي كان في وقت من الأوقات هو نفط السودان الموحد كله، لتدخل دولة السودان في أزمة اقتصادية، كان هذا النفط هو أحد أهمّ أسبابها، ويذهب جنوب السودان بعيداً مكتوياً بنار الانقسامات والنزاعات الداخلية.

وهذه المرة لا تقتصر المشكلة على صراع السلطة والنفوذ في حكومة الجنوب فحسب وإنّما هناك صراع آخر يغذي صراع السلطة هذا وهو القتال بين الجيش الشعبي وتمرد آخر في عدة مناطق منها ولاية جونقلي وتجدد الصراعات بين القبائل هناك مما ينذر بكارثة حرب أهلية جديدة ستقوّض الأمن في دولة الجنوب، والذي سيؤثر مباشرة على أمن السودان ودول الجوار.

بداهة تأثير هذه المشاكل على الأمن والاقتصاد بالإضافة إلى النفط الذي ثبتت خسارته كليّاً أو جزئياً إن تم الاتفاق، لا يحدّ من ظهور بنود أخرى تلعب هي الأخرى دوراً رئيساً، وهي قناة جونقلي. فبعد أكثر من عشرين عاماً من توقف المشروع قام الرئيس سلفا كير في فترة توليه نائب الرئيس السوداني بفتح مشروع القناة الذي توقف عام 1983م بسبب الحرب وكان وقتها لم يتعدّ العمل فيه العامين.

ولا ننسى أنّ مشروع القناة كان الأطروحة التي أعدّها الزعيم الراحل جون قرنق لنيل درجة الدكتوراة من جامعة إيوا بالولايات المتحدة وكان موضوعها عن أثر قناة جونقلي على المواطنين المحليين وقضية التنمية الاجتماعية الاقتصادية بالسودان.

الآن تغنّي “جونقلي” كما غنت من قبل “الحصان الذي فر” ، أغنية الدينكا الشهيرة حول مناطق البيبور التي لم يغمض لها جفن منذ زمن الحرب، أو كما تقول إحدى أغانيها الرائجة. وذلك ليس بفعل أداء رقصتها على إيقاع النقارة، وإنّما بسبب أنّ هناك شعبين تعبا من الحرب وبدآ يستعيدان الأمل في عودة وانتعاش الحياة.

التوقعات الكبيرة هي في أنّ هذا المشروع المائي سيوفر أربعة مليارات متر مكعب من المياه لكلّ من السودانين ومصر والتي تضيع في المستنقعات بسبب التبخر. كما سيوفر الأراضي الخصبة للزراعة بشق القناة وانتعاش النشاطات الاقتصادية والتجمعات السكنية حول المنطقة. أما كل ذلك فليس قبل الفراغ من الدراسات وإيجاد الحلول التي يمكن أن تحفظ التوازن البيئي وتأثير القناة الإيجابي ومعالجة السلبي منها.

وإلى أن يسيّر خط الملاحة النهرية بين دولة الجنوب والشمال خلال هذه القناة، وإلى أن يوطن الرحّل بعد استصلاح الأراضي الزراعية، وإلى أن نرى المواطنين جنوبيين وشماليين يعبرون الطريق البري بين بور وملكال، ثم حتى تستطيع الحيوانات البرية عبور الخندق الموجود الآن بأمان، فلن نحتاج إلى نقل تاريخ السودان القديم وتجميله ممزوجاً بحياء التقصير والإهمال وعقدة الذنب للأجيال قادمة.

إذا كانت تداعيات حرب الجنوب السياسية والأمنية تتميز بقدر كبير من المرارة، وتميل بسخونتها إلى احتلال مواقع الصدارة في واجهة الأحداث حتى بعد الانفصال، فإنّ ما ارتبط بها من تداعيات اقتصادية تنموية يطرح نفسه الآن كواحد من الخسائر التي خلفها الانفصال وأبقتها النزاعات الحالية.
[/JUSTIFY]