إعلام في بيت الطاعة الحكومية
في اجتماع القصر العاصف الذي ضم المعنيين بالأزمة ومنهم وزير المالية واتحاد الكرة ومدير هيئة الإذاعة والتلفزيون بالإضافة للنائب الأول للرئيس الذي أمر وزير المالية بدفع متأخرات الاتحاد على التلفزيون فورا، وهنا هب مدير التلفزيون مطالبا قبل ذلك بدفع متأخرات العاملين بالتلفزيون وأنه لا يستطيع أن يقول شيئا مقنعا لهم إذا ما دُفعت متأخرات الاتحاد دون أن تُدفع لهم متأخراتهم التي تطاول عليها الزمن.. ودفع الرجل ثمنا غاليا جراء موقفه المغالي في نظر القابضين على السلطة التي يهمها من يضغط أكثر وهم جماهير الكرة وليس “حفنة” عاملين بالتلفزيون، وكان البشير قد وصف جماهير ناديي المقدمة (الهلال والمريخ) بانهم يشكلون أكبر حزبين في البلاد.. فنحن أمام موقفين الأول موقف مدير التلفزيون وهو موقف يمكن أن نعتبره مبدئيا والثاني موقف الحكومة وهو موقف يمكن أن نعتبره انتهازيا أو نفاقيا.
على مستوى العالم هناك ثلاثة نظم ملكية معروفة، بالنسبة للتلفزيونات وهناك نظام رابع مكون من خليط من نظامين أو من الأنظمة الثلاثة معاً. وهو نظام تملكه وتديره الدولة وهو النظام السائد في الانظمة الشمولية، فواحد تمنحه الدولة حق الاحتكار كما في بريطانيا ممثلا في هيئة الإذاعة البريطانية BBC، وآخر ترخصه الدولة ويدار على أساس تجاري كما في الولايات المتحدة الأمريكية. ولا تنمو تزدهر وسائل الاتصال الجماهيري بما في ذلك الفضائيات والتلفزيونات إلا بوجود قاعدة اقتصادية متينة وكذلك قاعدة علمية وثقافية في المجتمع تمكن من إنتاج المعلومات وتوزيعها واستهلاكها وقدر معقول من الكثافة السكانية في المجتمع تؤكد جدوى تشغيل وسائل الإعلام الجماهيري ذات التكلفة الباهظة. والأمر الأكثر أهمية توافر مناخ ملائم من الحرية الرأي، بحيث ينشأ تفاعل قوي بين الجمهور ووسائل الاتصال الجماهيري الأمر الذي يدعم وجودها ويعطي مبرراً لبقائها.
وسننحي جُل تلك الشروط جانباً ليس لعدم أهميتها ولكن لأن شرط القاعدة الاقتصادية هو الذي تسبب في أزمة تلفزيون السودان التي لم تبدأ اليوم ولكنها ظلت تستفحل تصاعديا مع تصاعد التدخلات الحكومية.. صحيح أن التلفزيون الحكومي اليوم هو الأقل تأثيرا ويعاني من هروب المشاهدين كما يهرب الصحيح من الأجرب، لكن له دخلا معقولا من الإعلانات وبث المبارايات، بيد أن الدخل يذهب مباشرة لوزارة المالية وينتظر التلفزيون بعد ذلك عطاء وزارة المالية أعطته أو منعته ولو أعطته فإنه عطاء قليلٌ ممنونٌ يأتي عبر قنوات معقدة وإجراءات سُلحفائية السرعة.
عندما جاءت حكومة البشير تدفعها حُمى “الأسلمة” أعملت آلة التغيير العشوائي في التلفزيون الحكومي وأهتمت بالشعارات وبمظاهر المذيعات أكثر من اهتمامها بالمحتوى البرامجي، ثم اكتشفت “الخطأ” وأنشأت قناة النيل الأزرق بالشراكة مع رجل الأعمال السعودي صالح كامل (٥٠٪) و”تبرجت” قناة النيل الأزرق وسبحت في بحر الغناء والتسلية وبانت “شوزفرينية” الحكومة، ففي التلفزيون الحكومي أسلمة مشوهة ومنفرة وفي النيل الأزرق “تبرج وسفور” ورغم أن الأخيرة كانت الأفضل ماليا والأكثر حرية وانعتاقا من القبضة الحكومية إلا أن صالح كامل انسحب بعد سنين عددا وهرب بأمواله من “الخرمجة” الحكومية عائدا لبلاده.. أسهم صالح كامل استحوذ عليها رجل أعمال سوداني وبدأ سلسلة من التغييرات في القناة أزعجت الحكومة، وألقت الحكومة باللائمة على مدير التلفزيون “المسكين” باعتباره فرط في حركة الأسهم حتى لم يبق للتلفزيون الحكومي وهو يمثل الحكومة بالطبع، سوى (٢٠٪) من الأسهم.
لو تعلم حكومة البشير أن المشكلة ليست في الأشخاص لكنها في النهج السُلطوي الذي تدار به الدولة، ولن ينصلح حال الإعلام السوداني ما لم تتحقق تلك الشروط الآنفة وعلى رأسها الحرية والاستقلالية.. حرية العمل المهني والاستقلالية الاقتصادية.
د. ياسر محجوب الحسين
[/JUSTIFY]