البلولة…أنت استعجلت ولّا نحن اتأخرنا عليك؟
قد يكونوا وهم أحياء ..فيهم ذلك (الحياء) ..الذي يجعلهم يتواضعون ..ويتخوفون من الأضواء ..ويتحاشونها
الموت في روايات الطيب صالح ..نهاية (مفتوحة)…و النهاية المفتوحة عند الطيب صالح يختلف بها عن الكثيرين من الأدباء والقصاصين الذين يجعلون الموت نهاية (مقفولة) للرواية أو القصة أو البطل.
مصطفى سعيد بطل (موسم الهجرة إلى الشمال) مازالت مواسمه حائرة بين أمواج النيل.
كأن الطيب صالح أراد أن يقول لنا إن الموت (هجرة) أخرى…وهو عراب (الهجرة) في الرواية العربية.
يمكن إثبات ذلك أن كثيراً من (الشخوص) في الأعمال الأدبية والروائية والدرامية إذا أراد أصحابها أو قصدوا الرواة أن ينهوا قصة أبطالها ..أو أن يقفلوا ملفهم كانوا يجعلوا (الموت) نهاية لهم.
عند الطيب صالح ..الموت ليس نهاية مفتوحة ..يترك الاجتهادات مفتوحة للمتلقي.
والطيب صالح كان أذكى من غيره أديباً ..لأن الموت في حقيقة الأمر لا ينهي (فضائل) صاحبه أن كان له فضل ..(صدقة جارية أو ابناً صالحاً يدعو له).
لذا الموت ليس نهاية (مقفولة).
في الحياة هنا …بعض الناس ..تنتهي حياتهم وسيرتهم ..وذكراهم بعد (موتهم).
إن ماتوا ..رفع أثرهم وذكراهم مع رفع صيوان العزاء.
أو انتهت سيرتهم بعد انتهاء مراسم الدفن.
وما عاد بعد ذلك يذكرهم أحد.
وآخرون من الذين يكتشف فضلهم بعد موتهم ..تفتح سيرتهم وتذكر أفضالهم وتظهر محاسنهم بعد أن يرحلوا من هذه الحياة.
ليكون وجودهم بيننا بعد رحيلهم ..أقوى حتى من وجودهم قبل رحيلهم من هذه الفانية.
قد يكونوا وهم أحياء ..فيهم ذلك (الحياء) ..الذي يجعلهم يتواضعون ..ويتخوفون من الأضواء ..ويتحاشونها.
كم الذين رحلوا ..كان لنا منهم في حياتهم ذلك الحراك ..وذلك الصخب الجميل ..لوَّنوا حياتنا ..وأعطونا (طعماً) مختلف للحياة.
أدركنا حلاوة ذلك ..بعد رحيلهم.
ربما كنا لا نحسن تقديرهم..ولا نعرف قدرهم.
مضوا من حياتنا ..دون أن نقول لهم وداعاً.
تسربوا خلسة …خرجوا في هدوء تام.
الهدوء الذي يسبق وجعتهم.
مشجع الهلال (البلولة أحمد الريح) من أولئك الناس الذين انتبهنا لهم بعد رحيلهم ..وتذكرنا فضلهم بعد أن غادروا هذه الحياة.
كان يعطي لمدرجاتنا طعماً آخر.
كان يمنحنا حياة ..أخرى.
بتحركاته ..وتواصله الدائم…
تواصله الاجتماعي مع الآخرين ..تواصل (شوف عين)..لا فيس بوك ..ولا واتس آب.
ما بتنفع معاه ..التلفونات ..وألو مرحبا ..بيصلك عديل.
رغم أن التعب ..كان يحاصر جسده النحيل ..لكن لا تعب ولا فتر ولا ظروف ..منعتوا أن يصل الآخرين.
أن يكون حاضرًا في كل المناسبات.
الموت نبهنا لفضل ذلك الرجل ..ذو الملامح السودانية البسيطة ..والتلقائية المتدفقة ..والطيبة التي تكسو كل الحروف التي ينطق بها.
بسيط هو ..يضحك في كل الأوقات ..ويتجاوز كل المحن وكل الصعاب ..بابتسامة دائمة.
كان فقيراً ..لكنه كان أغنى الناس ..مبسوط …وفرحان.
كان نحيلاً ..لكنه كان عملاقاً ..في حراكه وتواصله وسؤاله عن الناس.
بجلبابه الأبيض ذاك كان يوجد في كل مناسبات الهلال ..ما ذهبت إلى عزاء أو زرت مريضاً من أهل الهلال أو أهل الرياضة عامة إلّا وجدت (البلولة) هناك ..لا يسبقك وحدك ..بل يسبق الجميع.
هو هناك ..صباحاً أو مساءً ..أو في منتصف النهار.
مثل (الجزيرة) بطيبته تلك ..بالتلقائية الفيه ..البساطة والعفو الشامل.
هو (قرية) متحركة بين الناس.
فيه كل صفات القرية الحميدة ..وكل سجاياها الجميلة.
المدينة لم تفقده شيء من (طيبة) القرية.
بل ثبتت أركان ملامحه السودانية الأصيلة.
مثَّل (الهلال)..بكل شعوبه وألوانه…وكان رسولهم في كل حتة يمشي إليها.
لم يتحزب لفئة ولم يتعنصر لمجموعة ..(هلالابي) شايع بين كل الناس.
كان مهموماً بالهلال في كل أنشطته ..في كل حركاته ..في كل خطواته ..يا ماشي على الهلال يا قادم من الهلال.
من وإلى الهلال ..هذه هي الحالة التي تجد فيها البلولة أحمد الريح.
لا يوجد إلّا في هذه الحالة الهلالية.
يخيل لي أن دقات قلبه والنبضات فيه ..كلها تنطق بعشق الهلال ..لم يترك له الهلال شيئاً ..فهو هلالي خالص.
هلالابي حتى الموت.
كل شيء فيه للهلال.
وكل أفعاله من أجل الهلال.
كان عندما توضع زوجته مولودًا أو توأماً ..يقول لك ..ح امشي أعمل السماية ..وأرجع عشان أحضر مباراة الهلال.
يجيك راجع سريع ..عشان يلحق المباراة.
وكان إذا مرض ..أو نال منه الداء ..قال لك …ح أحضر مباراة الهلال وأسافر عشان العلاج.
حتى مقابلة الأطباء ..قرنها بالهلال.
الهلال كان (ميقاته) الرسمي ..يظبط تحركاته كلها بمواعيد مباريات الهلال وتمارينه.
كم مرة كنت أنوي الكتابة عن البلولة مشجع الهلال وهو يشق طريقه في صعوبة من أجل الهلال.
كم مرة كان يفترض علينا …من الواجب أن نكتب عن هذه الشخصية الهلالية العظيمة ..وعن المعاناة التي يجدها.
لكن دائماً ..نأتي نحن متأخرين.
دائماً نقصِّر في حقوق أولئك البسطاء …هؤلاء الغبش ..أحق بالكتابة من أي شخص في الهلال.
هم الهلال نفسه.
والهلال هم …لماذا تأخرنا ؟.
لماذا لم ننتبه له إلّا بعد أن رحل.
هل استعجل البلولة ..وغادر؟.
لم يمهلنا حتى أن نقول له وداعاً.
وعدته كثيراً بالكتابة عنه ..ولم أكن أتوقع أن أوفي بوعدي له بالكتابة عنه إلّا بعد رحيله.
لم أظن أني سوف أكتب عن (البلولة)..بعد أن يموت.
كثير من المواضيع والمقالات لها مواقيت مرفوعة عننا ..نود الكتابة فيها ولا نستطيع ..إلى أن يأتي أجلها فنكتب فيها غصباً عننا.
ها أنذا أفعل ..أكتب عن مشجع الهلال البلولة ..ولكن بعد أن رحل من هذه الحياة وغادرها هكذا في صمت ..غير أنه صمت أبكى كل الهلالاب.
نعم تأخرنا عليك.
النجومية عبر الإعلام وعن طريق الصحف أو وسائل التواصل الأخرى أمر يمكن أن يكون في متناول اليد.
ليس هناك عبقرية تذكر في نجومية تصنعها (الأوراق) أو المواقع الاسفيرية ..والإعلام أصلاً هو مهنة تسليط الضوء.
نجومية بعضها مغشوش.
وبعضها مضروب.
لتبقى الوظائف الإعلامية ..وظائف تحت الضوء…مرفوع عنها الحجاب.
لذلك النجومية التي تصنعها الصحافة ..لا عبقرية فيها.
النجومية من خلال (الملاعب) أيضاً أمر يمكن أن يكون سهلاً وميسرًا ويمكن الوصول إلى النجومية عبر أقصر الطرق ..لأن الملاعب هي الأخرى موجهة نحوها الأضواء من صحافة وفضائيات ومنابر إعلامية أخرى ..قادرة على أن تجعل من أي موهبة متواضعة (نجومية) واسعة.
لكن نجومية (المدرجات)..هي الأمر الصعب ..والمستحيل نفسه أن لم يكن النجم الخارج من المدرجات يمتلك مقومات النجومية والكاريزما المطلقة.
البلولة ..حقق نجوميته من (المدرجات).
حقق نجوميته وفرض شخصيته من (التشجيع).
نحن لا نشعر ولا نحس بالمشجع ..وهو الأصل في كرة القدم ..وفي الرياضة بصورة عامة.
غير أن البلولة ..شعرنا به ..لأن شخصيته فرضت وجودها في المدرجات.
هو مشجع للهلال..تلك أعظم صفة يمكن أن تمنح للرياضي.
أعظم من أن تكون صحفي أو لاعب كورة أو إداري.
عظيم أن تخرج من بين هؤلاء.
أن تطلع من المدرجات.
وأن تكون بهذا السمو ..والارتفاع ..رغم ضعف الحيلة.
رغم أنه كان فقيراً ..لا يملك مالاً ولا عمارات ..ولا صحيفة ..ولا حتى عمود صحفي…لكنه كان الأعلى فينا.
كان أرفعنا قامة.
وأعظمنا حباً للهلال.
نسأل اللـه له المغفرة والسلوان ..ونرجو من جماهير الهلال ..خاصة أبناء الهلال في الخارج ..أن يتصدقوا له ..وأن يختموا له القرءان الكريم..فهو أحوج ما يكون لدعائكم اليوم.
ونرجو من مجلس الهلال أن ينتبه لأسرته الصغيرة فهو يعول أسرة فيها من الأطفال ما يحتاجون للدعم والسند والرعاية.
اجعلوا هناك يوم خاص للبلولة ..لتقدموا له بعض ما كان يقدمه للهلال قبل أن يرحل.
ولا حول ..ولا قوة إلّا باللـه.
……….
ملحوظة : كان في شوق دائم للسفر للقاهرة ..كأنه كان يتعجل رحيله.
هوامش
الهلال أمس أمام الأمل عطبرة لم يكن مقنعاً.
وأن حقق انتصاراً بثلاثة أهداف.
ربما كان الهلال حزيناً هو الآخر على رحيل البلولة.
كيف سيكون حال المدرجات؟.
وكيف سيكون حال مقار الصحف من غير البلولة ..(النحلة) النشاط.. حراكاً وتواصلاً وتشجيعاً.
إقامة مباراة ودية ..يلعبها الهلال ويعود دخلها لأسرة البلولة ..أقل ما يمكن أن يقدمه الهلال للراحل.
المدرجات ..قبل غيرها يجب أن يكون عندها دور قبل المجالس والإعلام.
البلولة ابناً للمدرجات.
خرج من بين جماهير الهلال.
وما يخرج من جماهير الهلال ..يكون دائماً عظيماً.
لذا قبل كل الناس ..المدرجات أولى بدعم ابنها.
…….
عاجل : ولا نقول إلّا ما يرضي اللـه.