[JUSTIFY]لا تحتاج عنزان لتنتطحا على أن قناة الجزيرة الفضائية قد بدأت بالفعل في عمليات الهبوط التدريجي من القمة الإعلامية العربية التي تربعت عليها وتسيدتها لعقد ونصف من الزمان.. فلا غرو والجزيرة قد صنفت لأكثر من مرة ضمن المائة شخصية ومؤسسة الأكثر تأثيراً في مجريات الأحداث على مستوى المنطقة والعالم.. لم تكن الجزيرة مجرد قناة إعلامية بقدرما كانت ظاهرة ثقافية وسياسية شاهقة.. كما لم تعد مجرد وسيلة ناقلة للأخبار فحسب، بل شاركت في صناعة الأحداث وبلورة الرؤى في كثير من الأحيان.. الربيع العربي نموذجا.. ولا أظن أني أبالغ أو أسرف في الزعم لو قلت إن هذا الجيل العربي هو من صنع الجزيرة.. حطمت قناة الجزيرة كل المسلمات الإعلامية التي أرساها الإعلام العربي على مدى نصف قرن من بيع الوهم.. فقد زعموا أن ليس بمقدور تلفزيون عربي أن ينجح بمعزل عن خارطة برامجية ماجنة.. تنهض على دراما مشروخة قد استفدت كل قضاياها وأفكارها وعوامل بقائها.. فشدت الجزيرة كل جمهور المشاهدين من المحيط إلى الخليج إلى المهاجر وإلى ما وراء البحار بالموضوعات الجادة.. دون أن تقدم مسلسلا عربيا واحدا.. فلعمري حتى الدراميين والمطربين والماجنين والمدجنين قد تركوا مرات عديدة مسارحهم ودور هزلهم لينضموا إلى جمهور مشاهدي الجزيرة.. وهي في أوج بثها الحي من المناطق الساخنة في أفغانستان والعراق وغزة.. فمن من تحت زخات السلاح ووسط ركام التفجيرات الحية صنعت تقاريرها الباهظة.. فلأول مرة تصبح للمهنة الإعلامية عقيدة تستشهد من أجلها طواقم بأكملها وهي ترسخ لقيم الحقيقة والشفافية.. بحيث أصبحنا ننظر لطواقم الجزيرة كما لو أنهم أبطال فهم ساعتئذ أكثر من مهنيين وأقل من رسل وأنبياء.. وعلى هامش الجزيرة تساقط الإعلام الرسمي قناة بعد الأخرى، وهو قد أصبح محرجا ومكشوفا.. أتاحت الجزيرة تحت ظلال شعار.. الرأي والرأي الآخر.. أتاحت لكل صاحب بضاعة فكرية سوقا رائجة إلا أن يخذله منطقه ولا يسعفه فن عرض بضاعته.. بلغت الجزيرة ما بلغ الليل والنهار بسوقافات حرية (بلا حدود).. فضلا عن الطاقة المالية الجبارة التي جعلت لها كل تحت ظل شجرة عربية مراسلا وفي كل مدينة مكتبا.. وذلك غير الخبرة والذكاء والقبول ولا عزاء للمنفقين والمنافقين لصناعة جزيرة أخرى!
صحيح أن تجربة الجزيرة لازمتها كثير من الأسئلة الصعبة التي خلفت بعض الهواجس والظنون لكنها لم تفسد أداءها.. وذلك على شاكلة من أين للقناة بهذه الأموال المهولة؟ علما بأن دولة قطر نظريا لا مصلحة مباشرة لها في قناة تمر الأيام بأكملها ولا تفرد لها خبرا.. فضلا عن تلك التناقضات التي اجتمعت في هذه الإمارة الصغيرة.. القاعدة الأمريكية والجزيرة والجماعات الإسلامية.. لدرجة أن رجلا في قامة الشيخ القرضاوي يبدو كما لو أنه يقيم تحت ظلال السيوف الأمريكية !!
غير أن ذلك كله لم يذهب ببريق المهنة وواقعية الممارسة وصناعة الحدث وأن تصفق الجماهير العربية لها طويلا.. حتى لو كان ذلك التهليل لممثل بارع فهو قد استحق البطولة والنجومية.. فعلى الأقل إن المسرحية مبهرة جدا جدا جدا …
* غير أن القصة الآن تبدو في صناعة فصولها الأخيرة إن لم تتداركها عبقرية أخرى.. وذلك لعدة أسباب أرجو أن أجملها في النقاط الآتية ثم أفصلها في مقال آخر.. التكرار الطويل والملل لدرجة تبدو فيها برامج الواقع العربي وماوراء الخبر والنشرات كما لو أنها برنامج واحد.. فكرة توفير ضيوف برؤى مغايرة ثم جعلهم يشتبكون قد استهلكت تماما.. فبرنامج في مقام (الاتجاه المعاكس) أصبح كما لو أنه (صراع ديوك) بفعل التقادم الممل.. غير أن الجزيرة التي وظفت تباين رؤى دول الخليج أضحت الآن أعظم الخاسرين من عمليات تقاربهم.. لدرجة أن تصالح وتقارب الخليجيين والمصريين سيكون ثمنه باهظا.. ثمنه الجزيرة.. انتظروننا في الحلقة الثانية..
[/JUSTIFY]