رفقاً بالكلاب
* نعم، تبدو القصة بالغة الغرابة، وإن رواها شاهد عيان محدداً المنطقة التي شهدتها والتفاصيل التي صحبتها، فكيف لأربعة كلاب تجد (فريسة طاعمة) لا تعوض ينبغي أن تتقاتل عليها متمثلة في (جثة طفل حديث الولادة) فتصرف شهوتها عنها، وتشرع في مواراتها الثرى بمقابر بأم درمان في مشهد خارج دائرة المألوف وغريب على الأذهان.!؟
* الخبر الذي نشرته (المجهر) أمس يحكي عن مفارقة عجيبة أدهشت الحاضرين بشروع (أربعة كلاب) في دفن طفل حديث الولادة بمقابر منطقة الـ(61) شمالي أم درمان، وقال (شاهد عيان القصة الغريبة) الذي يعمل موظفاً بالمحلية للزميلة أمل أبو القاسم إنهم كانوا بصدد دفن ابنة زميلتهم صباح الأحد الماضي بمقابر الـ(61)، وفي الأثناء شاهدوا أربعة كلاب يحمل أحدهم طفلاً حديث الولادة، لتتخير الكلاب مكاناً هشاً وسط المقابر وعملوا فيه نبشاً حتى اكتمل حفر مقبرة تلائم جسد الصغير، وبعد فراغ الكلاب من تجهيز المقبرة وقبل أن تشرع (مشكورة مأجورة) في الدفن وصلت قوة من الشرطة أبلغها أحد مواطني الحي الذي كان يتتبع الكلاب منذ أخذها الجثة من وسط المنازل، لتتولى الشرطة من بعد ذلك الدفن بينما لم تذهب الكلاب الأربعة السوداء بعيداً وظلت واقفة على بعد أربعة أمتار تقريباً حتى اكتملت عملية المواراة، فإن لم تفز بأجر الدفن فإنها حرصت على ثواب المشاركة في التشييع .
* الطفل الذي لا يجد كلاباً ترحمه بنهش جسده أو مواراة جثته الثرى، لن يسلم من المعاناة أيضاً وإن كتبت له الحياة .
* (ما ذنب هؤلاء الضحايا الأبرياء؟).. سؤال لا تزال علامة استفهامه تتقافز في خلفية الذهن كلما سبقتك الحسرة لدخول أحد العنابر بدار المايقوما التي ترعى أطفالاً تيتموا رغم أن آباءهم وأمهاتهم (للأسف الشديد) أحياء يتجولون بيننا بعد أن قذفوا بأبنائهم لمصير مجهول، وبخلوا عليهم بالنسب قبل الحنان ليخفوا خطيئتهم ويتضاعف الإثم وتتسع دائرة المآسي والأحزان.. أطفال يتعلقون بكتف كل زائر بعد أن أمد الله في أعمارهم وحفظهم برعايته.. في الوقت الذي نهشت فيه الكلاب أجساد آخرين.. رضيع لم يتجاوز عمره يوماً أو يومين وضعته (أمه) أو عشيقها أو أحد أقاربها أو معارفها في لفافة على حافة مقابر طرفية بعد منتصف الليل، طالبين منه أن يحمي نفسه، وصراخه لا يتوقف والكلاب تنبح وتركض من حوله.. ما هذه القسوة والقلوب المتحجرة ؟؟.. كيف ينام مرتكبو مثل هذه الجرائم و(المايقوما) تحاول ستر عورات أخطائهم وترعى وتربي وتحتضن من نجا من الموت ووصل للدار من أطفالهم.!؟
* زيارة واحدة لدار المايقوما ستعيد صياغة كثير من الأفكار والتفلتات وتكبح جماح النزوات.. كل ما يجده هؤلاء الأبرياء من رعاية داخل دار لإيواء الأطفال، ومن تتلطف به الأقدار، ذاك الذي يحظى بكفالة أسرة تدرك أن لا ذنب لديه سوى أنه خرج من صلب من لا يعرف الرحمة.. الدار تستقبل أطفالاً بحجم دفق خطايانا التي لا تنتهي، والعاملات هناك نذرن أنفسهن لخدمة هؤلاء الضحايا الأبرياء ليكسبن الآخرة قبل أن يخلصن في العمل الذي هو واحد من متطلبات الحياة.!!
* زياراتي لدار المايقوما لم تنقطع منذ فترة طويلة، وفي كل مرة أغادر الدار وحزني على حال هؤلاء الأطفال أخضر.. أسرح بخيالي كثيراً، وأسأل نفسي عشرات المرات عن العوائق التي تنتظرهم بعد أن تمر الأعوام تباعاً ويصلون لسن الرشد.. هل سيتمنى بعضهم لو أن الكلاب مزقتهم إرباً إرباً قبل أن يكتمل وعيهم ويدركون مأساتهم.. أم أن وعي المجتمع بحجم الظلم الذي وقع عليهم سيدفعه إلى احتضانهم وتخفيف الجوانب السلبية التي يمكن أن تؤثر على تركيبتهم النفسية والعصبية.؟؟
* المأساة كبيرة.. الجرح غائر.. الوجع يرقد بين المفاصل.. عدد الأطفال الضحايا في تزايد مستمر و(الرقم الوطني) يفقد كثيراً من بياناته الأساسية يوماً تلو الآخر.. الدعوة للفضيلة تفضي إلى تجفيف منابع مثل هذه الدور التي تقدم أدواراً إنسانية، والكلاب أرهقها (تعدد المهام) فبالأمس تنهش واليوم تدفن، ولن نستبعد غداً إن وقفت لتقدم الواقي في الطرقات .
* ليس مهماً عندي الآن أسطورية الخبر ودراما التفاصيل وتفسير الظاهرة الغريبة، فإن كان عضو هيئة علماء السودان الشيخ محمد هاشم الحكيم يرى أن للحيوانات ذكاء ووفاء مستدلاً بالغراب الذي علّم ابن آدم الدفن، أو قد يمضي البعض إلى أن الكلاب اكتفت بوجبات الأطفال فأصبحت تدس ما فاض عن حاجتها في الحُفر لتأتي لالتهامها على مهلها في (ساعة تهوية) يندر فيها طازج الطعام، فالمحنة الكبيرة تستدعي وقفة حقيقية.. فعلى رأس كل ساعة تزهق روح، لدرجة اكتفاء الكلاب من (بوفيه الأطفال المفتوح).!
نفس أخير:
* يا ليت لو أن أرحام هؤلاء تعقم
في زمن صارت فيه الكلاب أرحم.
اليوم التالي