منى.. زوجة نجيب
لا أعرف لها اسما غير هذا الاسم (منى مرة نجيب) رغم أن والدها من أعيان كسلا وله اسم (يهز ويرز) لكننا عرفناها بهذا المسمى المرتبط بزوجها الصديق الاعز نجيب الخير عبد الوهاب.. السفير والوزير والمعارض والصابر المكلوم.
رحلت منى بغتة مثل برق مباغت تسلل بلا مطر ولا ضجة سحاب، لم تكن تشكو من مرض لكن الموت انتزعها من العافية دون نذر وبلا مقدمات داخل مطبخها الذي أبدعت فيه الروائع وظلت مستعصمة داخله حتى ساعة الرحيل.
منى جزء حي من التاريخ الاجتماعى للمعارضة السودانية في القاهرة، صموتة وتنطوي على أدب جموم، حفية بالضيوف، قليلة الكلام لكن حديثها على قلته صميم وحكيم، كنت أتردد كثيرا على منزل نجيب بشارع الميرغني بمدينة نصر بحكم ارتباطنا المشترك بعمل يخص التجمع الوطني، لم أكن أحس بوجودها في المنزل لكن أصوات الاواني كانت تدل عليها وعندما أهم بمغادرة المنزل تصر على بالبقاء ولا أسمع من مني الا حكمة واحدة (ماشي وين أنا ما سويت ليكم الغدا).
وكان الغداء في تلك الايام كنزا فأنا لم اتناول الفول المصرى في الغداء الا في أيام الفاقة الكبرى التي طحت بنا في القاهرة.
طوال ترددي على منزل نجيب لم اتبادل مع منى غير معلومة واحدة هي أن محمد أحمد ود مدير أكبر جزاري كسلا هو خالي والحديث عن ود مدير يختلط بالنبل والرجولة والكرم الممتد بلا مدى والنخوة التي لا تحدها شواطيء، تهللت حين عرفت هذه المعلومة فوالدها صديق خالي وهي صديقة كل بنات ود مدير، منذ ذلك اليوم أحسست أن المرحومة منى تعاملني بذات النخوة والترحاب الذي عرف به خالي الذي أصبح رمزية كسلا مثل جنة أشواق توفيق صالح جبريل ومثل تواله إسحق الحلنقى بتلك المدينة التي دفعها فوق سنان الأغاني.
يا سبحان ربك بعد أسبوع واحد من رحيلها الداوي هاتفتنى شقيقتى وأنا في أعالى هضاب الاحابيش تزف لى نبأ رحيل خالي محمد أحمد مدير الذي ملأ كسلا بأصوات الثناء وقدم عرضا ملحميا للإكرام وحسن السيرة ورحل مفجرا ينابيع القاش من أعين الباكين مثلما فاضت عيوني بأثخن الدمع حين رفعت الفاتحة مع نجيب في مأتم منى كانت لحظة أحست فيها أن نجيب صار يتيما وتفجرت من اليتم إضافة جديدة، هي أن اليتيم ليس الذي فقد أبويه، إن اليتيم هو من ماتت له منى!
كان الجميع يدعون نجيب للصبر فالصبر على الفواجع والمكاره فضيلة لكننى حين اتصلت به من إثيوبيا أخبرنى بأنه يزور قبر منى في مقابر الصحافة فأدركت أن الرجل يمارس فضيلة الصبر لأن زيارة القبر همزة وصل بين الروح وبين القلب ورضاء بما قسم الله.
كان خالي ود مدير الذي تعزه منى والذي رحل (مباري دربا) نحو تلك الديار التي ستسعنا جميعا لخلودها ورحابتها على وفاق مع كل شيء وعلى تصالح تام مع كل خلق الله وكان يجمع كل المتناقضات الجسارة القصوى والحنان المتجدول، كانت البهائم التي يذبحها تحبه وكانت كل كسلا تجله، كان يوزع يومه بين الزريبة والسلخانة وقضاء حوائج الناس وزيارة ضريح (سيدى الحسن) والتجول بين داخليات الطلاب والطالبات مقدما العون ومؤكدا الابوة. رحم الله منى زوجة نجيب وصبر أخي نجيب على هذا المحل والسراب الذي بدأ يتجمع حول عينيه. ورحم الله خالي ود مدير فقد فقدت كسلا برقا لا يصدع الا من الأعالي.
أقاصى الدنيا – محمد محمد خير
صحيفة السوداني