تحقيقات وتقارير

فلنخرج قليلاً من داخل أنفسنا

كثُر تردّد (المباعيث) على رأي الزميل الدكتور البوني كما يحلو له جمع مفردة مبعوث..وتزايد على بلادنا في اهتمام واضح مما يشي بأن أرضنا فيها شيءٌ مدهشٌ يجذب كل هؤلاء القوم الذين يمثلون دولاً هي صاحبة الجلد والرأس في العالم كله. من حيث المال والصناعة وهي صاحبة القرار والأصبع الأعلى في مجالس العقد والحلّ التي فيها الفيتو بفرملته القوية التي يمكنها أن توقف أكبر قطار بضاعة على خط التعاطي السياسي، وإيقاف العقوبات. وفي مقدرة ذلك الكابح أيضاً أن يشتت ركاب أي قطار آخر ويفرّقهم إلى جماعات أو أفراد قبل بلوغهم محطاتهم المرجوة.. ولعل تكالب اهتمام الدول الكبرى بل وتجاذبها خيوط المبادرات على سودان العزة مثلما هو دليل على عافية بلادنا المستقبلية لما له من إضاءات على أن في قسمات وجه وتقاطيع عود هذه الطفلة الباكية على طرقات الأزمات ملامح عروسة سيسعد من يظفر بقلبها أيّما سعادة ويباهي بها الرفاق في محافل المصالح الإستراتيجية والاقتصادية الآنية والمستقبلية التي باتت ترسم أسلوباً براجماتياً للدول .. حتى العظمى منها يوازن بين المبادئ التي تراجعت إلى مراحل متأخرة في مقابل تلك المصالح التي باتت رسناً متيناً يقود كبريات الدول ويحدد مناخات قوافلها.. فإنه أيضاً مؤشر على أن بلادنا تعاني معضلات، وتتعثّر في مسارات الحلول الداخلية التي يفترض أن تفضي بالجميع كأبناء وطن واحد إلى التراضي حول قضاياهم وفقاً لأجندة وطنية توضح ما المطلوب تحديداً من قبل قادة تلك الجهات التي تتذرّع بالمظالم والتهميش في تبريرها لرفع السلاح في وجه حكومة المركز التي تبسط يدها للمصافحة تارة، وتطلق الأعيرة تارات أخرى.. لذا فقد تداعى الأجاويد من كل حدب وصوب منهم الداني ومنهم القاصي؛ وكل يحمل في جرابه ما يخفيه عن الآخر..أربعة مبعوثين فُرّغوا للعمل من قبل حكوماتهم لحل مشكلات السودان العزيز على تلك البلاد التي لهم فيها(مسمار جحا) يعطيهم حق الزيارات المتكررة والكلام في نزاعاتها وقناعتهم أن ما يحدث في السودان من مشكلات حُلّ بعضها بفك الضماد قبل التئام الجرح؛ بمعرفة الدول الداعمة لذلك الحل والتي يداخلها اليقين أنها مسؤولة عنه حتى يبرأ على مزاجها أو تبتر الجزء المزعج تبعاً لرؤيتها والمفاضلة بين الخيارين فيطلب منها في كلتا الحالتين أن تعين السودان موحداً أو منشطراً على التوكؤ في مشواره لمعالجة بقية الكسور والرضوض التي تصرخ هي الأخرى في أنحاء مختلفة من جسده المنهك بسكاكين أبنائه والمحاصر بأطباء علاج الكي (المباعيث).. المندوب الأمريكي لا غضاضة ولا غرابة في رحلاته المكوكية؛ فهو ممثل عمدة العالم وسيّده الأكبر..والمندوب الصينى ينطلق في حوامته من كونه حارس مرمى المشروعات الصينية التي حاولت شرارة النزاعات أن تتسلل إلى شباك مرماها لتحرقه. ولو بأهداف ينقضها الحكم..والمندوب البريطانى علاوة على أنه مساعد ضمني في الحافلةالأمريكية فإن له ذرائع تاريخية في أرض السودان التي ذهبت عنها شمسهم وتركتها عماراً..وجاءوا إليها الآن في سنوات خريفهم متهالكين على عصي الذكريات وقد أصبح ما تركوه دماراً. ولعل روسيا التي لم تبخل هي الأخرى بمندوبها الذي يعود بين الحين والآخر لإثبات حضوره على دفتر بداية الدوام وينصرف قبل نهايته فهي الأخرى لاتريد لغريماتها في مجلس الأمن الانفراد(بالشايل المنقة). أما طيبة الذكر فرنسا والتي لم تكلف نفسها حتى الآن بتوفير مندوب خاص لنا لكنها تغشى ديارنا من أطلال بوابتها الغربية عشماً في إحياء إرث تركته في جيب الجارة المزعجة تشاد وتطمع في أن تجد منه شيئاً في ذمة حدودنا مع بقايا ذلك البلد الذي تقاسم حكامه المتعاقبون والمتصارعون بقايا قميصه المهترئ و أضاعوا جيوبه. ولكن الأغرب في مساجلات الزيارات على السودان..هو دخول الإخوة في الجمهورية الإسلامية في خط الوجد والمناجاة متمثلاً في زيارة السيد / منو شهر متقي..وزير خارجيتها في وقت يحاول النظام الحاكم في السودان لملمة خيوطه الداخلية في مغزل مرحلة ما قبل وضوح معالم وألوان نسيج مستقبل الحكم المرتخي حتى الآن على جانب واحد من المنسج.. .. جاء متّقي ظناً منه أن نظام السودان لايزال في درجة من صفاء الذهن وانطلاق اليد.. (الأيديولوجي المتشدد)الذي يجعله رهن الانصياع إلى الوقوف معهم في صف الولاء العقائدي القديم على حساب أجندة كثيرة أخرى عادت بالسودان إلى انتمائه القومي التاريخي ووضعته من جديد داخل الجغرافيا المحيطة به فأصبح يركز النظر تحت أقدامه جيداً قبل أن يخطو أيّ خطوة تقوده إلى منزلقات لطالما سدّد فاتورتها الشعب السوداني في شكل توترات وصراعات؛ تقاطعات و مقاطعات مع جهات عدة أصبحت تذكاراً من ماضي التوجه الحضاري.. فقد جاء الأخ منو شهر متّقي يطلب تأليب السودان ضد أهل السنة في السعودية من دون أن (يضْرَعَ) المسافة جيداً بين أرض الحرمين وبلاد النيلين قياساً إلى البعد الذي بات يفصل بين دولة الفقيه-عندهم- وفقيه الدولة عندنا الذي لم يعد عرّاباً للنظام. وجاء متّقي يذرف الدمع في السودان. مستحلباً عطفه على (الشيعة الحوثيّين الغلابة) في اليمن.. ولعلّه عاد بخفي حنين؛ ولأسباب أخرى عدة..أولها أنه طرق باب السودان في التوقيت الخطأ؛ وذلك لظروف داخلية يشهد فيها السودان تحوّلاً ديمقراطياً لا نقول أنه كامل الدسم أو حتى سريع الخُطا في إفراز زبدته في تأرجحه داخل…(سِعْن الهزّة) ولكنه على الأقل أطلق صافرة الإنذار أمام نظام الحكم الذي كان مطلقاً في يد فئة واحدة؛ منبهاً إيّاها إلى ربط الحزام؛ لأن قيادة الدولة الآن تدخل إلى مطبات تستوجب الحذر من السقوط والانتباه إلى ضرورة أن بقية الطريق قد يقطعها النظام بمرافقة شركاء إضافيين على مقاعد المركبة. بالإضافة إلى السائق الآخر الذي فرض وجوده وفقاً لحصوله على رخصة القيادة في مضمار نيفاشا.. ثم إن السودان لم يعد ينظر إلى إيران كحليف مهم لاعتبارات دورها المشبوه في عدم استقرار العراق وسعيها لاحتلال أجزاء منه توجد فيها بعض آبار نفطه.. وإشارة أصابع الاتهام نحوها في اضطرابات ساحة الوفاق اللبنانى.. وازدواج مواقفها تجاه أمريكا بين المعلن والخافي.. إلى جانب احتلالها لجزر الإمارات..فضلاً عن رمادية تعاطيها مع تنظيم القاعدة المحيّر حتى بالنسبة لحسن النية تجاهها. كلها مؤشرات يبدو أنها حدت بالسودان لترديد المثل الشعبى القائل (ابعد من الشر وغنّيلو).. أن ننتبه إلى شؤوننا الداخليه متأخرين ذلك بالطبع خير ألف مرة من أن تسرقنا الغفلة. وأن نوازن في علاقاتنا وفقاً للمتاح..وانقياداً مع المباح..فذلك نهج جيد وأن يأتينا الآخرون للإصلاح و فق تبادل المصالح ذلك شيءٌ لا شبهة فيه..وإذا ما رتبنا طبيخنا على نار الهداوة وبعيداً عن اللهيب الذي قد يحرق ما ينتظره شعبنا وهو الرابط للبطون..فإن في طنجرتنا الواسعة ما يكفينا وينداح خيراً وفيراً على الآخرين..فإذا كان قدرنا أن يأتينا الآخرون لإعانتنا على لملمة جراحنا..فإننا سنقوى لاشك..وسنخرج إلى الآخرين ونحن ننتصب على سوقنا في يوم من الأيام..التي هي مرة عليك مثلما تكون مرات لك..فهلاّ خرجنا من داخل أنفسنا قليلاً لنراها من خارجها. أعتقد أنه آن الأوان لذلك…والله من وراء القصد..
صحيفة التيار :محمد عبد الله برقاوي