أرضٌ بين مصر والسودان لا يملكها أحد
وقد فاق طموح جيرمي تواصله مع وزارات خارجية حكومات البلدين، وحين لم تردا عليه، عزا ذلك إلى انشغالهما بشهر رمضان. ومضى في طموحه، بتواصله مع عدد من العلماء، لإحضارهم إلى المنطقة، لكي يساعدوه في اختيار التكنولوجيا المناسبة، لزراعة الصحراء واستغلال كل الموارد المتاحة، للقيام بما تحتاجه تلك الدولة التي سيبنيها بأموال التبرعات.
بعض الأقلام في أرض الوادي لم تنصّبه فحسب على الدولة الجديدة، وإنّما كشفت تزوده بسند قانونيٍّ، يضمن استيلاءه على المنطقة، بتحقيقه شروط القانون الدولي غير المكتوبة، ولكنْ معمول بها منذ القرن السادس عشر في مثل هذه الحالة. والشروط المطلوبة من جيرمي حتى يحقق حلمه بأن تصير ابنته إميلي أميرة على المنطقة، هي: وجود شعب دائم يسكن المنطقة، وأن يقوم بترسيم الحدود، وأن تكون لديه القدرة على الدخول في المعاهدات والمواثيق الدولية، ثم الحصول على اعتراف الدول المجاورة.
لا يبدو أنّ الأمر عبثي، بالنظر إلى تيقّن جيرمي من أنّ هذه الشروط الواهية تمكّن أيّاً كان الحصول على أيّ بقعة مهملة في أيّ مكان في العالم. وهنا، يمكن وضع اعتبار لمنطق الحجج الاستعمارية التي سوّغت لدول عظمى، من قبل، استعمار مصر والسودان. ثم النظر إلى سابقة وضع كيان على أرضٍ، يملكها أصحابها، بوعد بلفور الذي لم يكن سوى رسالة حقّقت وعد من لا يملك لمن لا يستحق، فإنّه لا يُستبعد أن يستجمع جيرمي هذه السوابق، ليستخدمها في دفوعاته عن حقه في تشييد مملكة. وحين تشرق الشمس، نكون أضفنا إلى فلسطين المُغتَصبة، وهوياتنا المهزوزة، شوكة أخرى، تنغرس على خاصرة وادي النيل.
”
الفهم الحديث المتمثّل في الخط الحدودي، لم تكن تعرفه القارة الأفريقية كلها، بما فيها مصر والسودان قبل الاستعمار
”
الأدهى أنّ جيرمي سيستفيد من الثغرات العديدة لخلافاتٍ حدودية في المنطقة، خصوصاً وأنّ المنطقة لم يتم ترسيمها بوضوح، وعلى مقربة من علمه المرفرف، برفقة أميرته الصغيرة، ستكون مملكته أفضل حالاً من مثلث حلايب الحدودي بين السودان ومصر على ساحل البحر الأحمر، والذي تمّ ترسيمه مرتين. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الخلافات تحوم حوله.
ينطوي الخلاف على منطقة حلايب بأنّ الحدود المرسومة على الأرض وضعها الاستعمار البريطاني، وفقاً لاتفاقية السودان المبرمة بين بريطانيا ومصر، والتي تم التوقيع عليها في يناير/كانون الثاني 1899، وقضت بأن تكون حلايب داخل الحدود المصرية. وهذا الفهم الحديث المتمثّل في الخط الحدودي، والذي تم تعيينه بما فوق خط عرض 22 درجة شمالاً، ونقاطه الجمركية ونقاط المراقبة الحدودية لم تكن تعرفه القارة الأفريقية كلها، بما فيها مصر والسودان قبل الاستعمار. ثم جعلت بريطانيا في عام 1902 المثلث تابعاً للإدارة السودانية، لقربه إلى الخرطوم من القاهرة. وتعتبر الفترة التي تم فيها ترسيم الحدود بين السودان ومصر مرتين هي التي وُضعت فيها معظم الحدود السياسية في أفريقيا من دون مراعاة لطبيعة المنطقة، ومن دون اعتبار للمفهوم التقليدي للحدود، بمراعاة تحركات وتداخل القبائل بسبب النشاطات الاقتصادية السائدة في القارة، مثل الرعي والزراعة والصيد، والتي يحكمها الرحيل من منطقة إلى أخرى، في موسم الأمطار. وذلك يعني أنّ كل الحدود السياسية على الخارطة الأفريقية من صنيع الاستعمار، فلم تكن هناك حدود سياسية بالمعنى الحديث قبل ذلك، وإنّما كانت حيازات أهلية وتقليدية.
تتجاذب الأطراف المعنية بمعالجة ملف حلايب مواقف أغراض سياسية، أكثر منها واقعية، ترى أنّ هذا أصلح وقت للمناورة حول المنطقة. حمّل مؤيدو انقلاب 3 يوليو في مصر، ولغرض معلوم مسبقاً، الرئيس المنتخب محمد مرسي ذنب حلايب، وزعموا أنّه هو من أهداه إلى السودان، وذاك أنّ المكر يبدو ديدناً أصيلاً لأعداء الديمقراطية، لبثّ مزيد من الحنق على الثورة المُجهضة. ويتجلّى ذلك في معنى أنّ كلّ من يوافق هذه الفكرة، ويسلّ لسانه، يلعن من ضيّع حلايب، فهو وطنيٌّ غيور، ومن يعترض عليها، أو يصمت، فهو جاسوس وخائن.
وفي الجانب السوداني، المزايدة انتخابية بامتياز، حيث أعلنت مفوضية الانتخابات حلايب دائرة انتخابية برلمانية، لانتخابات 2015، وبذلك تكون الحكومة قد أخرجت القضية من مسارها الدبلوماسي كمسار تفاوضي، حتى تثبت للمواطنين السودانيين أنّها الأحرص على مثلثٍ في الشمال، ضيّعت عشرات الأضعاف مثل مساحته في الجنوب.
الآن، وقد سُنّت الأقلام، صار الحديث عن منطقة بارتازوجا أخفّ وطأةً من حلايب، ومدعاة للسخرية من هاوٍ أتى لحكم بقعةٍ وسط صحراء تائهة، وفي كنف حدودٍ، لا يهتم بها حتى أصحابها.
منى عبد الفتاح