د.عبد الوهاب الأفندي

الانتخابات كوسيلة لفض النزاع في السودان: هل يجرؤ المؤتمر الوطني؟

[JUSTIFY]
الانتخابات كوسيلة لفض النزاع في السودان: هل يجرؤ المؤتمر الوطني؟

يرى كل معظم العقلاء وكثير غيرهم- أن استعجال النظام السوداني لعقد انتخابات عامة العام المقبل في استباق لنتائج الحوار الذي دعا له سيخلق مشاكل أكثر مما يحل. فقد نشأت الأزمة الحالية نتيجة عقد انتخابات شكك فيها الجميع وقاطعتها المعارضة في عام 2010. وقد كان انفصال الجنوب أيضاً نتيجة شبه حتمية لتلك الانتخابات الفاشلة، خاصة في ظل رفض حزب المؤتمر الوطني المهيمن خلق بيئة ملائمة لعقد الانتخابات عبر إتاحة الحريات ولجم اجهزته الأمنية ووقف مخالفاتها للدستور والقانون، واستمراره في هذا التعنت حتى بعد الانتخابات.
ويبرر الحزب الحاكم إصراره على عقد الانتخابات في موعدها بأن تأجيلها مخالف للدستور، وسيخلق فراغاً وفوضى. وهذا بالطبع يفترض أن النظام السوداني القائم نظام يحترم القواعد الدستورية ولا يحيد عنها، وهو موضوع النزاع. فقد نصت المادة 216 من دستور عام 2005 على ضرورة عقد الانتخابات العامة قبل نهاية العام الرابع من الفترة الانتقالية، أي قبل التاسع من تموز/يوليو 2008. ولكنها لم تعقد إلا في نيسان/أبريل عام 2010. ولم تكن تلك أول ولا آخر مخالفة للدستور، الذي ظل الالتزام به هو الاستثناء، كما يظهر من التمادي في التعدي على حريات المواطنين التي كفلها الدستور. ولو كان الالتزام بالدستور هو معيار الشرعية، فإن النظام فاقد للشرعية أساساً، والفراغ الدستوري قائم.
ولكن حتى لو افترضنا أن النظام يحترم الدستور كما يحترم المؤمنون شريعة الله، فإن من أيسر الأمور عليه تعديل الدستور لو رأى أن المصلحة في ذلك. فهو يمتلك أغلبية مطلقة في البرلمان تجعله قادراً على تعديل الدستور في دقائق معدودة كما فعل نواب البرلمان السوري حين قرروا توريث بشار الأسد الحكم. ومهما يكن فإن الدستور الحالي مثلا لا يسمح ما لم يعدل بترشيح البشير لرئاسة جديدة، فهل سيحترم الإخوة الكرام الدستور في هذا الجانب منه؟
ولكن دعونا نقبل حجة المؤتمر الوطني في أن عقد الانتخابات في موعدها مثل الحج وصوم رمضان، لا يجوز تأخيرهما. عندها فإن مناط الخلاف هو عقد انتخابات حقيقية، أي انتخابات نزيهة وحرة، لكل الأطراف فيها فرص متساوية، وهو ما لم يحدث في عام 2010، وما لا ينتظر أحد أن يحدث الآن. فلجنة الانتخابات بتركيبتها الحالية تفتقد الحيدة والكفاءة لعقد انتخابات بعيدة عن تدخلات الحزب الحاكم، كما أن هيمنة الحزب على الدولة وأجهزتها من إعلام وشرطة وقضاء لا يتيح للمعارضين الفرص المتكافئة. وإذا كان النظام على ثقة بسنده الشعبي كما يزعم، فليس أيسر من أن يقبل بعقد انتخابات لا تشوبها شائبة ولا تعتريها شبهة. وهذا يعني القبول بلجنة انتخابات محايدة، وإشراف حيادي كامل على العملية الانتخابية، مع إتاحة كافة الحريات لكل القوى السياسية، ورفع اليد عن أجهزة إعلام الدولة وإتاحة نفس الفرص لكل الأحزاب، مع القبول بوجود مراقبة صارمة كاملة الصلاحيات تتأكد من أن المؤتمر الوطني لا يستخدم أموال الدولة وأجهزتها لدعم حملته الانتخابية.
ويجب أن يدخل في هذا رئيس الجمهورية وبقية كبار المسؤولين، حيث لا ينبغي لهم أن يستخدموا المركبات الرسمية في تنقلهم أثناء الحملة الانتخابية، وأن لا يتمتعوا بحراسة من أجهزة الدولة، وألا يستخدموا الإعلام الرسمي إلا بنسبة متساوية مع بقية المرشحين. وينبغي فوق ذلك أن تقوم لجنة الانتخابات بتحديد سقف للإنفاق في الحملات الانتخابية ينطبق على الجميع.
وإذا كان المؤتمر الوطني مستعداً لخوض الانتخابات بهذه الشروط، فينبغي على الجميع أن يرحب بمثل هذا العرض. وعندها لن تكون حاجة لحوار أو أخذ وعطاء، لأن الشعب سيقول كلمته بصدق وحرية، ويختار بحق من يراه صالحاً للحكم، وعندها سيكون الحوار بين نواب الشعب المنتخبين، ويكون قد قضي الأمر وحسم الخلاف. فالانتخابات الحقيقية هي من أفضل وسائل حسم الخلاف السياسي، كما حدث الأسبوع الماضي في الاستفتاء على استقلال اسكتلندا. بشروط طبعاً.
ولكن هذا يعيدنا إلى نقطة البداية، لأن المؤتمر الوطني هو الذي سيعترض في هذه الحالة على عقد الانتخابات. ذلك أن أي احتمال، مهما كان ضئيلاً، لخسارة الحكم لصالح المعارضة هو احتمال لا يطيق الحزب مجرد التفكير فيه. ولهذا السبب يفعل كل شيء لتجنب عقد انتخابات نزيهة، وهو تصرف عقلاني من وجهة نظره، لأن ما سيخسره عندها هو أكبر بكثير من مجرد ضياع مقاعد السلطة.
الخيار إذن هو إما أن يكون الحوار حول الانتخابات وعدالتها ونزاهتها وثقة كل الفرقاء بها، أو أن يكون الحوار حول بقية القضايا الخلافية. وإذا كان الحزب واثقاً، كما يقول، من قدرته على كسب أي انتخابات عادلة، فليتحدى المعارضين بالاستجابة لكل مطالبهم بخصوص الشروط المطلوبة لتحقيق العدالة والنزاهة. وعندها لن تكون المعارضة في حاجة لاستخدام السلاح أو للدعوة لانتفاضة، وإنما يكفيها أن تحشد أنصارها لمنازلة النظام في حلبة الانتخابات، وتثبت حجتها في أن النظام القائم هو نظام أقلية يفتقد السند الشعبي. وبنفس القدر، لا يحتاج النظام إلى القمع والتحايل واستخدام الرشاوى، وإنما أيضاً يستنفر عضويته التي لا يقعدها خوف ولا طمع عن نصرة قضيته العادلة.
أما إن كان الأمر غير كذلك، فالأفضل أن يتفاوض الجميع حول ضمانات لكل الأطراف، والتوافق على نظام حكم تحفظ فيه الحقوق، ويأمن في ظله الجميع، وتحفظ فيه المصالح المشروعة.
وهذه تذكرة بالطبع بأن الانتخابات تكون وسيلة لفض النزاعات فقط في إطار توافق شامل يضمن ألا تتضرر المصالح الحيوية لطرف من الأطراف، وإلا فإن الانتخابات تكون أسرع الطرق لتفجير الأوضاع وبداية الحروب. فقد أدت بدايات التحول الديمقراطي إلى حروب ونزاعات في يوغسلافيا وروسيا وجورجيا وكينيا ونيجيريا، وأخيراً في مصر وليبيا والعراق وأوكرانيا. وفي الولايات المتحدة تفجرت الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر بسبب خلافات عجز الكونغرس عن حسمها. فالانتخابات لا تكون «ديمقراطية» إلا في إطار توافق أوسع، يضمن ألا تكون القضايا الحيوية خاضعة لتقلبات الرأي العام والتصويت. فلا يمكن أن يقبل مثلاً أن يكون حق فئة في المواطنة خاضعاً لقرار الأغلبية، أو أن تصوت طائفة لإقصاء أو إبادة طائفة أخرى.
ويأسف كثير من السياسيين والمحللين الغربيين لعزوف الناخبين عن المشاركة في العملية الانتخابية، ولكن هذا العزوف هو في الغالب تعبير عن الاطمئنان الضمني على مصالح المجموعات الحيوية وقيمها المحورية. وإلا حين يكون هناك شعور بأن قضايا كبرى هي على المحك، فإن الإقبال يكون كبيراً، كما كان الحال في استفتاء اسكتلندا الأخير الذي سجل له أكثر من 90% من الناخبين وشارك فيه أكثر من 80%. ولكن حتى هنا كان التنازع في إطار ديمقراطي لا تضار فيه القيم والمصالح الحيوية لأي طرف. فاسكتلندا سواء أكانت مستقلة أو جزءاً من بريطانيا ستحكم بنفس الطريقة ومن قبل نفس الأحزاب.
الخلاصة إذن هي أن الحزب الحاكم في السودان لو كان صادقاً في احترام الدستور واستنطاق الشعب فليتفضل إلى انتخابات حرة ونزيهة، ويتحمل النتائج. ولكن هل سيجرؤ؟
[/JUSTIFY]

د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]