بريمة ومهاتير
«1»
أستاذ
.. ويصرخون.. المريخ انتصر.. ويرقصون و…
.. لكن سؤالاً واحداً هو ما يرقص في الذهن عندنا..
.. والصحف والناس والتلفزيون وأحاديث عن طيور الشمال.. وأحداث ومؤتمرات الوطني.. وزواج فلان و… و…
.. والسؤال وحده هو ما يظل في ذهننا وهو ذاته ما يلقى الأخبار ــ كل الأخبار ــ السؤال الذي يقول.. هل هذا يجعل السكر واللحمة أرخص؟!
.. وأنت رياضي.. والسؤال العبقري هذا هو ما يصنع كل شيء.. ما بين كرة القدم في السودان وحتى دولة ماليزيا.
.. وفي الثمانينات.. حامد بريمة يجعل فريق الهلال ينطح رأسه بالحائط يبحث عن طريقة للأهداف التي أصبحت مستحيلة مع بريمة.. قالوا.. يومها كان بعضهم في الهلال يلح على مدير الفريق لتسجيل «سبّاح» مشهور.
.. ولحسم الجدال مدير الفريق يسأل في سخط:
والزول دا ــ السباح ــ هل يستطيع تسجيل هدف في مرمى بريمة؟!
.. قالوا: لا ..
.. قال: لا نريده.
.. وفي الأيام ذاتها.. دكتور مهاتير محمد في ماليزيا كان يطلق السؤال هذا، وبالسؤال هذا يحول ماليزيا من الدولة رقم «128» في العالم إلى الدولة رقم عشرة الآن.
.. مهاتير كان يغمس أنفه في تاريخ كل دولة ليعرف كيف نهضت.. ويسأل عن كل شيء وجدواه.. وهل يسجل هدفاً لماليزيا.
.. ولا شيء في الأرض يشبه ماليزيا مثلما يشبهها السودان «فقر.. وقبلية.. وعجز.. وخبث.. ونزاع.. وعبقرية وجنوب».
.. ومهاتير يصل إلى أن ما يصنع الدولة هو
: قرار «يصدر عن أهله فقط».. ثم متابعة مجنونة للقرار حتى التنفيذ.. حتى التنفيذ.
«2»
.. وماليزيا نلتقط مجانينها ونضعهم أمام مجانين السودان.. مثل من ينظر في المرايا.
.. ونلتقط قبائلها.. وفقرها.. و… و… ونجعلهم مع أمثالهم في السودان.
.. حتى نصل إلى أن ما يقتل السودان: ما هو
: ولعله قرار يصدر من غير أهله.
.. ثم عجز عن تنفيذه.
«3»
.. في الاتحاد السوفيتي ــ يجد مهاتير ــ شعباً مخلصاً.. يريد الإصلاح.. وحكومة مخلصة تريد الإصلاح.
.. لكن..
.. قال مهاتير
: أيام السوفيت قالوا لي أن ساكن إحدى الشقق في موسكو سافر إلى «ليننغراد» وبعد عشاء يتناوله وفودكا جيدة يستغل حافلة كالمعتاد من الموقف المعتاد ويهبط في محطته المعتادة ويدخل شقته المعتادة في الزقاق المعتاد ليفاجأ هناك بامرأة في شقته.. والمرأة فوجئت به.
.. وبعد الهرجلة الرجل يكتشف أنه في «ليننغراد» وليس في موسكو.
.. القصة تعني أن الدولة تصب كل شيء في قالب واحد إلى درجة أن الموقف والحافلة والمحطة والشقق والزقاق والسلالم والناس كلهم نسخة واحدة. والحكومة السوفيتية تبحث عن إصلاح.. لكن؟
.. نموذج السوفيت ــ لم ينفع.
.. وفي اليابان الرجل يجد أن اليابان «المطحونة من أفظع حرب في الأرض.. واليابان الجائعة و…»، اليابان هذه تصنع اليابان اليوم لأن.. ويجد أن بعض ما يصنع اليابان اليوم هو أن
: الموظفين اليابانيين يكرهون العودة إلى منازلهم باكراً لأن ذلك قد يجعل جيرانهم يظنون أنهم لا يحصلون على تقدير عالٍ عند شركاتهم.. أو أن العمل هناك يمكن أن يستمر دون وجودهم.. وهذا شيء يجعل الزوجة تشعر بحرج بالغ من زوج هذه صفاته.
الموظف الذي يصنع اليابان هو هذا.
.. والموظف في السودان هو…!؟!
«4»
.. مهاتير بدأ صناعة ماليزيا بشيء يقصه عن كيف كان في بداية جولاته.. وهو رئيس وزراء.. قال
: لاحظت أن مصابيح الشوارع أكثرها ضعيف الإضاءة.. وفحصتها ووجدت أن الغبار يتسلل إليها وتصبح معتمة.. ونظفناها.
.. والأشياء الصغيرة هذه يلاحظ مهاتير أنها هي التي صنعت اليابان قال
: الياباني ــ خادم المطعم ــ أدوات الطهي عنده ــ وهم يطهون أمام الزبون ــ الأدوات لامعة كأنها لم تستخدم من قبل.. كل شيء في المطبخ مرتب بشكل أنيق دقيق.
.. كل بقايا الزبون الأخير تزال كأنها غرفة جراحة.. والطاهي يقدم منتجه لزبائنه بأدب جم.. ثم انحناءة مؤدبة في نهاية الوجبة.. والطاهي يستأذنك بالانصراف حتى ينتقل لخدمة الزبائن الآخرين.
.. هذا هو المطعم «الشعبي» في اليابان.
.. والمطعم في السودان.. هو…!؟!
.. قال عن الإخلاص..
.. اليابانيون عملوا لسنوات طويلة دون مرتب.. كل ما يحصل عليه العامل هو كوب من الحساء.. ورغيف.
.. الآن العامل الياباني.. إمبراطور.. إمبراطور يصنعه الإخلاص.
.. والإخلاص في السودان ترسخه رسالة واحدة.. رسالة شخصية يرسلها زوج إلى زوجته.
.. الشهيد حاج نور حين يبلغه استشهاد ابنه في الجنوب ــ حاج نور يومئذ مجاهد في كتيبة أخرى يكتب إلى زوجته ليقول
: لو وجدت في السنة النبوية شيئاً يسمح لي بالقدوم إليكم لأتيت لأعزيك في إبنك.. لكنني لا أجد في السنة عذراً لأحد يترك ثغرته في الجهاد.
.. حاج نور وملايين معه قدموا إخلاصاً للإنقاذ لا يشبهه شيء.
.. لكن الإخلاص هذا ما يدمره شيء نعود إليه.
.. ونعود إلى تجربة ماليزيا من هنا التي جعلتها من قادة العالم.. ونعود إلى تجربة إفريقيا الوسطى من هنا التي تخرجها الآن من العالم.
.. تخرجها «حرفياً».. والتي تريد إخراج السودان من العالم.
.. ما يبقى هو أن سؤالاً واحداً صغيراً يجعل مهاتير يخرج ماليزيا من قاع العالم إلى القمة.. لأنه يعمل بالطريقة الماليزية.
.. والسؤال ذاته يجعل مدير الهلال يعجز عن إحراز هدف في مرمى بريمة.. لأنه يعمل بالطريقة السودانية.. ومثله السودان كله.
.. ونجزم أن كثيرين جداً لن يجدوا في مقالنا هذا إلا قولنا إن الهلال عجز عن إحراز هدف.
.. فنحن نعمل بالطريقة السودانية.
.. يبقى أن ألف مهاتير سوداني يعمل الآن.
.. بعضهم كان يرسل رسالة عام 2004 من هارفارد ــ لو أن أحداً التفت إليها يومئذ لتبدل حاضر ومستقبل السودان.
****
.. ونحدث الأسبوع الأسبق عن معارك تنطلق في جنوب النيل.
.. والمعارك تنطلق أمس.
آخر الليل – اسحق احمد فضل الله
صحيفة الانتباهة
[EMAIL]akhrallail@gmail.com[/EMAIL]