السودان وموسم الهجرة إلى حقوق الإنسان
انطلق وفد المجلس الاستشاري السوداني لحقوق الإنسان للمشاركة في هذه الجلسة، واستبقته السلطات السودانية بإطلاق سراح أبرز المعتقلين السياسيين، حتى تنجو من فكي محاور الخطاب المقدم من المنظمات غير الحكومية لمجلس حقوق الإنسان، الشهر الماضي. أوصت هذه المنظمات بضمان معالجة مجلس حقوق الإنسان انتهاكات القانون الإنساني الدولي في السودان، تحت البند الرابع في جدول أعمال الدورة المزمع انعقادها في الـ 23 من سبتمبر/أيلول الجاري. كما أوصت باتخاذ إجراءات ملموسة وفورية، من بينها التصدي لتحديات حقوق الإنسان، والتي شملت حرية التظاهر والتجمع السلمي، حرية الصحافة والتعبير، حرية الدين والمعتقد، وقف الضربات الجوية على المدنيين في جنوب كردفان ودارفور، الاعتقال التعسفي للنشطاء السياسيين، الوصول إلى حل سلمي للأزمة السياسية، وإلغاء قانون الأمن الوطني لسنة 2010.
وقضى الإجراء بالإفراج عن بعض الذين تم اعتقالهم، وأبرزهم مريم الصادق المهدي، نائب رئيس حزب الأمة، المعتقلة منذ نحو شهر بعد عودتها من باريس، حيث كانت رفقة والدها زعيم حزب الأمة، الصادق المهدي، الذي حضر مراسم توقيع “إعلان باريس” مع “الجبهة الثورية”، التي تقاتل الحكومة في جبهات عدة، وذلك في أغسطس/آب الماضي. ثم تم إطلاق سراح إبراهيم الشيخ، رئيس حزب المؤتمر السوداني، المعتقل منذ يونيو/حزيران الماضي، بسبب انتقادات وجهها إلى قوات الدعم السريع “ميليشيا الجنجويد” بارتكاب انتهاكات في إقليمي دارفور وكردفان.
“النظام الذي يرفع رايات المشروع الحضاري، هو النظام نفسه الذي ما زال يدعو إلى الجهاد ضد أميركا ومن يواليها، بينما يتغزّل بحبها سرّاً
”
جاء الانفراج في أزمة المعتقلين السياسيين عند رغبة رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في السودان، السفير توماس يوليشني، ووقوفاً عند رغبة المجتمع الدولي في حوار وطني برعاية المبعوث الأفريقي، ثامبو أمبيكي. كما كان هناك بعض التأثير لرسالة المبعوث الأميركي للسودان وجنوب السودان، دونالد بوث، وتسلمها أخيراً مساعد الرئيس السوداني، إبراهيم غندور.
لطالما أهرق النظام السوداني مداد البيانات، وأرهق الأسماع بخطبه المنصبّة لعناتها على الإمبريالية والدول العلمانية في حِلّ قياداته وترحالها، وذلك في خُطبهم النارية في كل المناسبات، وفي تصريحاتهم لوسائل الإعلام، وتعنتهم في النزول عن علياء العناد، وعدم استجابتهم للمناداة الدولية بضرورة بسط الحريات والعدالة نحو عملية التحول الديمقراطي.
نجحت قيادات “الإنقاذ” في تقديم مفهوم تضليلي عن علاقتها مع الغرب عموماً، والمنظمات الدولية خصوصاً، وذلك بتصويرها بالوصولية من دون أن تغلق باب التضليل هذا وجعلته موارباً، إذا ما احتاجت مزيداً من الحبك الدرامي، الذي يسوّغ المواقف، ويدبّج الخطب النارية، المصنوعة خصيصاً، للاستهلاك الجماهيري المحلّي. أهم ما في هذا المفهوم أنّه كشف عن مواقف اتخذتها الحكومة ضد الغرب، كان الناس، فيما مضى، يعتبرونها عزة غريرة بالنفس، أو سوء ممارسة للسياسة الدولية. ولكن، الصدمة الكبرى والتي جعلت من الشك يقيناً أنّ النظام الذي يرفع رايات المشروع الحضاري، هو النظام نفسه الذي ما زال يدعو إلى الجهاد ضد أميركا ومن يواليها، بينما يتغزّل بحبها سرّاً، كما ظهر في وثائق ويكيليكس.
ظهر هذا التودّد في الوقت نفسه الذي ساد فيه تعبير سيادة الدولة، حتى كاد أن يكون التعبير الأكثر تداولاً إبان صدور الوثائق، وحتى ظن بعضهم أنّ الفيلسوف الألماني هيغل موجود بينهم. فحسب بيان هيغل، الدولة هي مجال الغايات الكلية والمصلحة المشتركة، ولذلك هي فكرة عقلية فوق الجميع. وحسب مراجعته في الإطار نفسه بأنها تكتسب علويتها من القانون، لأنّ القانون وتضحية الأفراد بأنفسهم من أجل الفكرة الكلية هو اجتياح للأهواء، إلّا أنّ الإنقاذيين جرحوا في نظريته، من حيث أرادوا الانتصار لذواتهم. وظهر ذلك من تجربتهم في الحكم، التي مرت بمنعطفاتٍ خطيرة، تدثرت خلالها السلطة برداء الحرب ضد الهيمنة الغربية وضد الاستعمار الحديث، ولكن، لم يسترها، لأنّها لم تحافظ على الدولة في فكرتها الأخلاقية.
وبدفاع النظام السوداني الاحترازي المهزوز عن سيادة الدولة، فإنّه يكون قد آمن جزئياً بما يمكن أن يحدث من تدخل في شؤونه الداخلية، تحت مختلف البنود ابتداء من باب الحريات ووضع الأقليات والمهمشين وضحايا الحرب في دارفور والنزاعات في أقاليم السودان المختلفة. وعلى الرغم من المكابرة، فإنّ ذلك يعني أنّ نظام الدولة الوطنية السودانية الحديثة ولّى، وجاء بعده نظام يخضع رغماً عنه لواقع التحولات في السياسة الدولية والنظام العالمي الجديد. وبعد ذلك كله تضطره رياح السموم إلى هجرة الدفاع الإجبارية، لأنّه تعامى عن رؤية أوضاع المواطنين، بينما رآها حتى مَنْ في عينه رمَد.
الكاتبة : منى عبد الفتاح