مرحلة السفر تحت الأرض
وصلنا الى لندن في ذات يوم جمعة، بإحساس كريستوفر كولمبوس عندما اكتشف العبيط أمريكا، بينما كان تكليفه اكتشاف طريق الى الهند، وفوجئنا نحن المبتعثين الخمسة من إدارة التلفزيون التعليمي بأن يوم السبت أيضا عطلة، فكانت فرصة للقيام بمغامرات محسوبة لاستكشاف المدينة، وكنا نعرف أن الحافلات هي أرخص وسائل المواصلات العامة في كل الدول في كل الدول (إذا استبعدنا عربات الكارو التي تجرها الحمير أو الخيل، ومؤخرا الركشو ذو المحرك الذي صار اسمه في السودان «ركشة» وفي مصر تكتك)، ووقفنا في محطة للحافلات وسعدنا لأننا وجدنا فيها ملصقات توضح خط سيرها، وسرعان ما اكتشفنا ان تلك الملصقات عبارة عن جدول لوغريثمات، لأن معظم المعلومات فيه كانت أرقاما لم نفهم منها شيئا، وعرفنا لاحقا أن كل حافلة لديها رقم معين وتمشي في مسار معين، وأن تلك الجداول – إذا درستها جيدا- تشرح لك كيف تصل إلى الوجهة المقصودة مع ما يتطلبه ذلك من تغيير الحافلات والخطوط، ورغم أنني زرت لندن بعدها نحو عشر مرات بل وأقمت فيها مع عائلتي فإنني لم استخدم حافلاتها قط، لأنني لا أثق قط في اي شيء تلعب فيه الأرقام دورا محوريا.
وصباح يوم الاثنين اتصلنا بالمعهد الذي كان مقررا ان نلتحق به، فأعطونا عنوانه الجغرافي، وحددوا لنا اسم محطة قطار الأنفاق القريبة منه (إيوستن)، فتوجهنا الى محطة بادنغتون للقطارات، واقتنعنا بان العام الدراسي سيضيع علينا، فقد كان بالمحطة مسارات وخطوط لعدة قطارات، ونحن لا نعرف «منين يودي على فين»، ووجدنا خرائط على جدران المحطة توضح مسار كل قطار، ولكنها كانت خرابيط وشخابيط بألوان مختلفة، ثم قلنا لأنفسنا: لا بد أن بالمحطة جورج قرداحي يعطينا خيارات لنصل الى المحطة القريبة من المعهد. وبالفعل عثرنا على الخواجة قرداحي، ولكنه بحبح في الخيارات: ممكن تمشوا بقطار بيكرلو أو الدستركت أو السيركل، فطلبنا منه على استحياء أن يحدد لنا قطار بعينه يوصلنا الى حيث نريد، ففعل ذلك مشكورا، وركبنا القطار وخلال دقائق كنا في محطة إيوستن، ونزلنا من القطار ووجدنا أنفسنا وسط مظاهرة صامتة، فقد كان آلاف الناس يتحركون في كل الاتجاهات، وأصيبت رؤوسنا بالدوار والدوخة، لأننا فوجئنا بأن بالمحطة نحو عشرة أرصفة، وعدة مخارج، فبحثنا عن قرداحي المحطة ليشرح لنا كيف نصل الى المكان كذا وكذا في شارع كذا، فتكرم مشكورا بالشرح المطلوب ولكن المصيبة أن ذلك كان يتطلب استخدام نحو أربعة اسكاليترات (سلالم كهربائية متحركة)، وكنا قد خضنا اول تجربة معها في المطار ولم تكن مشرِّفة، ولكن توكلنا على الله، وصعدناها الواحد تلو الآخر، ونحن في غاية الخجل والارتباك لأن الخواجات المفترين كانوا يركضون صعودا وهبوطا من حولنا، بينما كل واحد منا يمسك بدرابزين/ حافة السلم باليدين.
ووصلنا الى سطح الأرض بعد أن أصبنا بالجفاف والتصحر بسبب العرق الذي نزفناه في رحلة لم تستغرق من حيث الزمن أكثر من ثلاثين دقيقة، أضعنا نصفها ونحن ضائعون، وبعدها توبة من محطة إيوستن، وأكرمنا الله بمحطة بديلة هي راسل سكوير، كان الخروج منها بأسانسير، وسبحان الله فبعد تلك التجربة صرت أعرف لندن تحت الأرض حارة حارة ولكن من دون زنقات، بمعنى أنني صرت خبيرا في استخدام قطارات الأنفاق اللندنية، ولو سألني الآن وأنا في الدوحة شخص ما عن طريقة الوصول الى نقطة معينة في لندن استطيع ان احدد له المسار بقطار الأنفاق حتى لو كان الأمر يتطلب تغيير القطار أربع مرات، ولكن لو سألتني عن اي مكان فوق سطح الأرض في لندن فستستنتج أنني لم أغادر قريتي في شمال السودان إلا مسافرا إلى الدوحة.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]