الزول اليهودي وفضيحتنا
طوال الطريق من مطار هيثرو إلى قلب المدينة، كانت المسطحات الخضراء على جانبيه، وتذكرت بلدتي جزيرة بدين، حيث كل مساحتها مغطاة بالخضرة وحتى البيوت لا تخلو من بضع شجيرات مهمتها الأساسية توفير الظل لأزيار الماء، فقد كان الشبه بما أراه في ذلك الطريق اللندني وما شهدته في جزيرة بدين شديدا ما عدا في جزئية واحدة هي شكل البيوت المتناثرة هنا وهناك، بصراحة بيوت لندن أجمل من بيوت بدين إلى حد ما، ولكن تلك المشاهد ذكرتني برحلتي بالقطار عبر مشروع الجزيرة، وقطعاً فإن مناطق مارنجان وبركات كانت وقتها أجمل من أي بقعة في الريف الإنجليزي حتى من حيث المباني والمعمار والإضاءة.
المهم أن سائقا صوماليا عثر لنا على فندق يناسب إمكاناتنا، ولحسن حظنا كان صاحب الفندق والذي قابلناه في كاونتر الاستقبال يهوديا!! شو ها الحكي جعفار؟ ما يصير تقول إنك محظوظ لأن الفندق تبع يهودي. دخيلك ناسي إن اليهود عدو إلنا؟ لا يا زلمي، بس يهودي عن يهودي يفرِق، واليهودي تبع الفندق كان سوداني المولد والنشأة وفخور بأنه سوداني ومو معترف بإسرائيل وزعلان من دادي ومامي منشان هاجروا من السودان سنة 1967، رغم أنه ما في حداً ضايقهم!! نعم فقد كان في السودان يهود «أولاد/ بنات بلد»، معتزين بسودانيتهم ومنسجمين في النسيج الاجتماعي، بدرجة أن عددا كبيرا منهم وعندما جاءت لحظة الفرار الكبير بعد حرب عام 1967 ظلوا في السودان واعتنقوا الإسلام غير مكرهين كي يزدادوا ارتباطا بالسودان، ولكن الأقباط الذين وفدوا إلى السودان من مصر عبر القرون «تسودنوا» بالكامل ومنهم قادة بارزون في الحركة الوطنية والسياسية، وكان من بينهم موريس سدرة مدير الشرطة، وشقيقه لويس وزير الصحة، بل إن قبطيا بسيطا اسمه جورج مشرقي جعل من مقهى كان يملكه في أم درمان مقرا للاجتماعات السرية لقادة الحركة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني
المهم وصلنا إلى لندن في يوم جمعة، وصبيحة اليوم التالي لبسنا أفضل ما عندنا من ثياب، ولم نكن نعرف للمعهد الذي كان مقررا أن نلتحق به عنوانا؛ لأنه كان من المقرر ان يستقبلنا مندوبون عنه في المطار لنقلنا إلى السكن المخصص سلفا لنا، ولكننا وصلنا لندن بعد الموعد المحدد، وكنا نحتفظ برقم هاتف المعهد، فتوجهنا إلى هاتف عمومي، و«ذاكرنا» جيدا طريقة استخدامه، (كانت معظم الهواتف المستخدمة في السودان تعاني من الزهايمر فتتصل بوزارة التربية فيأتيك الرد من مستشفى الأمراض النفسية)، واتصلنا بالمعهد وخلال ثوان ردت علينا فتاة صوتها يجنن، ولكنها طلعت «قليلة أدب وثرثارة»، فقد ظلت تردد عبارات الترحيب والتحية وتتلو معلومات عن مواعيد الدراسة، حتى نفدت العملات المعدنية التي كانت معنا، فعدنا إلى الفندق، وقابلنا الزول اليهودي فسألَنا عن سبب عودتنا بسرعة إلى الفندق، فحكينا له عن محاولات اتصالنا بالمعهد والأنثى الثرثارة التي لم تعطنا أي فرصة لنطرح عليها السؤال حول كيفية الوصول إلى المعهد، فانفجر الرجل ضاحكا وقال: فضحتونا يا جماعة.. أولاً النهار دا السبت، يعني عطلة عامة، فقلنا له ضاحكين: خلاص نجحتم في تهويد الإنجليز فصاروا يعطلون يوم السبت؟ فشرح لنا أن العطلة الأسبوعية في بريطانيا يوما السبت والأحد (أول ما طرأ في ذهني هو أننا سنتدبس في الفندق ليلة إضافية على حسابنا الخاص بينما هناك سكن مجاني مخصص لنا من قبل المعهد في مكان ما)، وواصل الزول اليهودي كلامه: الفضيحة يا شباب إنكم كنتم تتكلمون مع «آنسر مشين» يعني هاتف مزود بنظام الرد الآلي المسجل، وكانت تلك المرحلة الثانية في صدام الحضارات.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]