جدل النشر والستر
منذ أعوام بدأ يتكّشف انهيار جزئي في المنظومة القيمية لمجتمعاتنا العربية، وكأنّ هذه الأخبار الواردة على المواقع الالكترونية كما في الصحف الاجتماعية الصفراء ذات الإعداد الرديء لا تشبع سقما. أصبح ما يُنقل على صفحات هذه المصادر المختلفة من حوادث القتل والاغتصاب والانتحار يتم بطريقة ممعنة في الإثارة. وأصبح الهدف أكبر من البحث في جذور هذه المشكلات ومن لفت الأنظار إلى أنّ هناك ظواهر سالبة تمتُّ بصلة وشيجة إلى العنف وتبعد عن فطرة الإنسان السوية، تنخر في جسد مجتمعنا. أخبارٌ تندس في صحف الصباح تهشّم نفسية القارئ القابلة للكسر بسبب أعباء الحياة المختلفة حتى ليخيل له أنّ الحياة استحالت إلى مستنقع مصائب ووصلت حدّا يذكّر بعهود بعث الأنبياء الذين فسد أقوامهم فأرسلوا ولم يتبعهم إلا نفر قليل، والبقية المستكبرة حلّ عليهم غضب الله إلى يوم يبعثون.
والحديث عن انتشار المفاسد وغلبة الباطل على الحق يحتاج إلى جرأة في الطرح، أكثر من الإشارة فقط وذلك بإزالة الساتر الثقيل الذي يغطي على مجمل الحوادث والقضايا. لفتت هذه الوسائل الإعلامية صحفية أو اجتماعية الانتباه إلى مشاكل تغلغلت بعمق في نسيج المجتمعات العربية، وقد كان الإخبار عنها حتى وقت قريب ضربا من المحرمات. واختلف الناس حول هذا التناول بين متحفّظ ومؤيد، فبينما يؤدي هذا التناول دورا في لفت الانتباه إلى المشكلة، إلّا أنّ عنصر الإثارة بات يطغى على كثير من التغطيات لمثل هذه الأخبار، وأضحت بعض الصحف تستنسخ ملاحق بحجم التابلويد لتحقق الربح الوفير من كشف سوءات مجتمعها. وليت هذه الوسائل اكتفت بذلك، ولكنها ترى أنّ في استيرادها لمزيد من أخبار الجرائم وقصص يندى لها الجبين من شعوب أخرى ربما يحقّق متعة إضافية للقارئ، حتى أصبح التنافس بينها يقوم على أساس من يجلب الأفظع والأغرب.
إزاء هذا الوضع المزري لا بد للمؤسسات الاجتماعية في بلداننا العربية أن تستيقظ من سباتها لتوطين خططها الإصلاحية مبتدئة بأصعب المشاكل الاجتماعية وأكثرها حساسية. فهناك قضايا ثابتة وغير طارئة، وهي تلك المتعلقة بالأطفال مجهولي الأبوين والتسوّل والأطفال المشرّدين، وذلك بالعمل على معالجتها والحدّ من تناميها حتى تصبح صفحات مجتمعاتنا ناصعة لا تشوهها هذه المخازي المتراكمة بسبب التقصير والإهمال.
أما عن كيفية المعالجة فغالبا ما نجد عددا من الدراسات التي تقوم بها الجهات المختصة. هذه الدراسات تكشف مسببات ما وصلت إليه المجتمعات وتحديد دوافعها، ولكن هناك تشويشا في المعلومات فيما يختص بآلية حلّها أو الحدّ منها. الأنسب هو أن تكون هناك صلات بين المؤسسات الاجتماعية وأفراد المجتمع، ولا يقتصر التواصل على من لديهم مشاكل فحسب. وهذا التواصل عوضا عن أنّه يقدّم نوعا من التوعية الاجتماعية والتي تكفل سبل الوقاية للمجتمع من الأمراض الاجتماعية، فإنّه يخلق رابطة بين الجهة الرسمية وبين فئات المجتمع بالوصول إليهم في الأحياء. وسيخدم نفس القضية إن كان هناك تنسيق ما بين المؤسسات الاجتماعية والإعلام فيما يخص النشر والارتقاء بدور الصحافة وأخلاقياتها في مثل هذه القضايا. وليقف الجميع عند حلّ وسط يكون أكثر إنصافا خاصة بعد الفشل في حسم الجدل الدائر حول نشر وتناول الجرائم الاجتماعية، هل هذا سيدق جرس الإنذار للمجتمع لأخذ الحيطة فيما يتعلق بالحماية من هذه المشاكل، أمّ إنّ كثرة النشر والتناول ستحوّل هذه الفظائع إلى شيء مألوف، وتحوّل الإنسان إلى كائن بارد لا يحرّك فيه سماع هذه القصص ساكنا؟
إنّ أي خطة إصلاحية اجتماعية أو وقائية يجب أن تبدأ من القاعدة ومن جمهورها المستهدف، ويستلزم أمر نجاحها ألا يحيط من هم على رأس المسؤولية أنفسهم بالعزلة ومراقبة المشهد من علٍ. ولن يتغير ما ألمّ بمجتمعاتنا حين تعزل المؤسسات الاجتماعية نفسها وتقف متفرجة على أفراد المجتمع فيصبح كحال ذاك الذي: «وألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له إياك، إياك أن تبتلّ بالماء».
[/JUSTIFY]
الكاتبة : منى عبد الفتاح