من بدين إلى لندن… تو مَتْش
كنا في مدرسة الخرطوم بحري الثانوية أسرة واحدة بالمعنى الشامل للكلمة، فقد كنا كمعلمين نلتقي في بيوت بعضنا البعض في الأمسيات أو العطل الأسبوعية، بل حتى في الإجازات الصيفية، كان المعلمون المقيمون في المدينة يحرصون على الالتقاء في المدرسة كل صباح لتناول وجبة الفطور سويا، ومؤازرة للمدرس المناوب، فقد كان النظام التربوي يقضي بوجود مدرس خلال الإجازات من السابعة صباحا حتى منتصف النهار يوميا، وبعد مدة معينة يخلفه مدرس آخر، فقد يأتي طالب لم يتسلم نتيجة الامتحانات، أو ولي أمر للاستفسار عن أمر ما، وكانت المدارس تخضع للصيانة خلال العطل فيكون المدرس المناوب هو «الفورمان» الذي يتابع أعمال الصيانة، وحتى عم عبد المجيد وعبد الله العاملان في المدرسة وضيف الله الذي كان يدير كافتيريا المدرسة كانا جزءا أصيلا من تلك الأسرة، وحتى في جامعة الخرطوم كان النظام يقضي بأن يكون ممثل لاتحاد الطلاب موجودا في الجامعة خلال العطل الصيفية لحل اي مشكلة قد تواجه طالبا ما.
وأنا في تلك المدرسة تم نقلي إلى إدارة التلفزيون التعليمي لأقضي به فترة تدريبية ثم أسافر إلى لندن لدراسة انتاج البرامج التعليمية، ولم أسع لتلك البعثة بل لم أكن أعلم بوجودها، وإن كنت متأكدا من أنني سأفوز بعد سنوات قليلة ببعثة لنيل الماجستير في اللغة الإنجليزية في جامعة ليدز أو ريدنيغ في إنجلترا، كما جرت العادة مع مدرسي اللغة الإنجليزية حاملي الدرجات الجامعية في تلك اللغة. المهم تساءلت: لندن حتة واحدة؟ يعني سيأتي يوم وأصيح فيه: هنا لندن من دون أن أكون كاذبا؟ من جزيرة بدين إلى لندن؟ بصراحة هذه «تو متْش»، ولما أبلغت أمي بذلك قالت «أنت من يومك (يوم مولدك) بخيت ومبروك، بس أنا بشوف في التلفزيون نسوان لندن «بنات حرام» ويا ويلك وظلام ليلك لو جيتنا راجع ومعاك خواجاية!! قلت لها يا مامي (طبعا لو قلت لأبي «يا دادي» أو لأمي يا «مامي» لحسبوني «شارب شي»، أو قادوني إلى «شيخ» من نوع شخارم بخارم وشيخن بيخن يبصق علي بصقة «مبروكة»، المهم قلت لها ان لا معنى للخوف علي من بنات الخواجات لأني سلفا عندي خطيبة، فصاحت: ما حتمشي لندن ولا ليبيريا لو ما عقدت عليها، وهكذا عقدت قراني على أم الجعافر قبل السفر إلى لندن بأيام، ومع هذا أصدرت أمي فتوى استنادا إلى أنها ابنة فقيه: زواج نصرانية فوق مسلمة حرام، فإياك وبنات الحرام.
ولم تكن أمي وحدها التي تعتقد أن بنات أوروبا منحرفات بالجملة و«على الهبشة»، بل إن أصدقائي كانوا يشاركونها ذلك الرأي، ولكن يتناولون الأمر من زاوية مختلفة: بختك يا زول.. بنات جون ولعب على المضمون، ولا يعرف كثير من العرب إلى يومنا هذا أن «بنت الحرام» الخواجاية تشوف العمى ولا تشوف شخص لونه أسمر، ولا يعرفون أنهن لسن مبتذلات ولا رخيصات ولا علاقة لهن بالصنف الذي نراه في الأفلام الهوليوودية، وأنه حتى «التعري» الذي يمارسه بعضهن لا يعني (بمقاييسهن وثقافة بلدانهن) أنهن منحرفات، ولكن كان كل ما يهمني هو أنني سأعيش في لندن التي تعتبر زيارتها في فقه السياحة العربي فرضا حتى لمن لا يستطيع إليها سبيلا، فيقترض أو يسرق ليسافر إليها ثم يروي (كما اكتشفت لاحقا) سلسلة من الأكاذيب عن أهلها عموما ونسائها خاصة، فهؤلاء يحكمون على نساء بريطانيا بمغامراتهم مع نساء سوهو في لندن وهن أصلا «مارقات للربا والتلاف» كما نقول في السودان عن الشخص الذي يخوض في أمر متناسيا العواقب.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]