هل يعود “عوليس” مصر؟
وعلى الرغم من حالات الرعب التي يتم إلقاؤها في روع كل من يرفض انقلاب 3 يوليو، ما يتضح معه أنّه لا نهاية تلوح في الأفق لانتهاكات الحقوق والحريات هذه في مصر، فهناك ما يدعو إلى التفاؤل برؤية الواقع، وفقاً لأسطورة عوليس، رغماً عن كل شيء. ففي الميثولوجيا اليونانية يمثل عوليس بطلاً يعاني عذاباً شديداً في طريق عودته بعد ملحمة بطولية. ولكنه يضلّ في متاهة البحر والأهوال أعواماً، ويصادف كل أشكال المخاطر والإغراءات، فلا تثنيه عن رغبته في العودة. ويجتاز المهالك، أخيراً، حتى يصل منتصراً إلى هدفه النهائي، والمكان الذي انطلق منه.
شيئاً فشيئاً، من كان يسمع فقط فسيرى، الآن، ويعايش حقيقة ما تحمله رسائل أفعال العنف. رسالة واحدة فقط منها يحملها بوم التقتيل العبثي كافية لتنذر بشؤم الإبادة. ولكن، رغماً عن تضييع بعضهم بوصلته، وغوصه عميقاً في بحر الخطوب المدلهمّ، فإنّ هناك أملاً بأن يُنتشل بقشة أمل.
جاءت تقارير المنظمات الدولية، لتظهر للعالم أنّ السلطات لجأت إلى استخدام القوة المفرطة، لفض الاعتصام في ميداني رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس/ آب 2013م، ولم تُنسب التُهم ولو إلى عنصر واحد من عناصر قوات الأمن، تتعلق بتلك الواقعة، وغيرها، والتي وصفتها بأنّها حمامات دم مروّعة. وإن أنكرت الهيئة العامة للاستعلام المصرية التابعة لرئاسة الجمهورية ما فعلته رئاستها بيدها، وإن تجاهل مؤيدوها الحقائق وأرقام الضحايا والمفقودين، وعمي بصر من هم معها عن صور الدماء السائلة، ولقطات التعنيف والإذلال، وما يصيب النفوس من سقم القهر. وإن قالت ما قالت عن تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” حول فض اعتصامي ميداني رابعة والنهضة، بأنّه “يتسم بالسلبية والتحيز، ويزخر بالمبالغات والتعميم وعدم الدقة “، أو أنّ المنظمة “ترسل بإشارات خاطئة إلى المجتمع الدولي”، فإنّها لن تستطيع إلّا وضع غشاوةٍ رقيقةٍ، ستجليها عزيمة المقهورين وجهود المجتمع الدولي الذي لو لم يتمكّن من رؤية قرص الشمس من ثقوب الغربال فهو بلا شكّ أعمى.
الكل يعلم أنّ من قاموا بالاعتداء على التجمعين لا يحتاجون إلى ذرائع ومبررات إضافية، تمكّن الدولة من دفع عجلة التغاضي عن تسليم الضالعين في هذه الانتهاكات للعدالة الدولية. وهي، بالإضافة إلى أنّها تمثّل جرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات للحقوق السياسية والمدنية، وانقلاب واضح على الديمقراطية وشرعة الحقوق.
تعود هذه المنظمات الحقوقية إلى مصر، ولا يغيب عن بالها أنّ الحكومة تحافظ، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، على وهن الإطار القانوني والمؤسسي لحقوق الإنسان، حتى تتجنب مشقة شفافية التحرّي في الانتهاكات الخاصة بكفالة حرية المواطنين والصحافيين وناشطي حقوق الإنسان وعمليات الاعتقال العشوائية والتعذيب.
“ما يحدث في مصر منذ انقلاب 3 يوليو، يمثّل جرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات للحقوق السياسية والمدنية، وانقلاب واضح على الديمقراطية وشرعة الحقوق.
”
ومن سخرية الأقدار أنّه عندما ينتفض ضمير الحقوق العالمي، وينهض من سباته، ليحقق في المجازر التي جرت في ميداني رابعة والنهضة، كأبرز حدثين من جملة الأحداث التي هزت مصر والعالم العربي، ينبري المتغولون على الحقوق، ويصورون ثورة 25 يناير بأنّها هزّة على السطح. لقد قام بها المقهورون، واقتلعت جذور النظام الفاسد، ولكن أبت الدولة العميقة إلّا أن تستيقظ لتقلب الطاولة على الثوار الذين قدّموا أنفسهم قرابين للذود عن مكتسبات الثورة، والدفاع عن شرعية الحكم الذي جاءت به، ويزداد القتل والقهر والتنكيل وتعلّق العدالة على بوابات السماء لأجل غير مسمى.
ورويداً رويداً، من لم تقنعه السياسة سيقتنع بالأمر الواقع، حيث يسير به هذا الواقع إلى نبع اليقين، وهو أنّ مصر ما بعد الانقلاب العسكري تغوص، حتى أذنيها، في أوحال فضائح القمع والاضطهاد وكبت الحريات، ولا يمتلك المواطن، الآن، الذي صنع المعجزات أدنى درجات الاستقلالية في تدبير أموره، إلّا بالقدر ما يسمح به الجنرال.
ومن يتحمّل ويلات دفاعه عن حريته وقيمتها يعاني عذاباً أعظم وويلات أكثر، ليس أقلّها إفلاته من بين فكي الجبابرة، وليس أكثرها أن يكون في وسعه انتظار المنظمة الدولية لترشده إلى الخروج. ذلك لأنّ طريقه الوحيد هو نفقٌ مظلم، يقاسي فيه مشقاتٍ عديدة، يبتليه بها طغاة خالدون، كلما قطعت رأس أحدهم، نبت في مكانها عشرة رؤوس.
لا يعترينا شكٌّ في أنّ إنسان مصر هو ذاك الإنسان ببطولاته وقوته وشجاعته، يدافع عن حقه في الديمقراطية بنضال الشرفاء، وهو المستعدّ أبداً لملاحم الكفاح العظيمة، المكابد، طوال رحلته، لأقدار المعاناة النفسية والذهنية والجسمانية. فهل يبلغ هدفه النهائي بنجاح، أو هل يعود عوليس مصر مكلّلاً بتاج النصر من حيث بدأ.
الكاتب : منى عبد الفتاح